pregnancy

أريد أن أبني كنيسة - قصة قصيرة

هذه القصة حوتها المجموعة التي صدرت بالإسم نفسه في 2010 عن دار إنسان
أريد أن ابني كنيسة 
طارق عميرة


قبل أن يهجر منزله للأبد، قال مايكل:
- لن يجعلك الخوف تعيش للأبد..
ومضى بينما والده ينكس رأسه بعد أن انتهى من نوبة التوبيخ التي كان يصدع رأسه بها دائما، مضى مايكل وهو مشغول بشدة، إلى أين يذهب؟، ومن أين سينفق؟، يمكنه تدبير عمل لنفسه ولكنه بحاجة لأيام قبل ذلك حتى يجده على الأقل..
أبوه علمه ألا يصمت عن حقه، وعندما أدرك حقوقه الحقيقية وبدأ بالمطالبة بها بدأ الصراع مع والده حول المبدأ الذي غرسه في نفسه..
أليس من حقه العيش في حرية كما..
لم يفكر كثيرًا فقبل أن يبتعد عن منزله بخطوات مزق أذنيه صوت صرير سيارة توقفت فجأة وهبط منها رجلان سارعا بالالتفاف حوله ولم يستطع مقاومتهم، كان جسده هزيلا، لهذا لم يستطع مقاومة اليد التي تلوي ذراعه ولا التي تكتم فمه ولا اللتين تحملانه، فقط شعر أنه دجاجة انحشرت بين أخشاب القفص حين وضعوه في السيارة، رأى أمامه شخصين آخرين، خيل إليه أنه يسمع صوت ضحكة والده من داخل منزل قبل أن تفقد كل حواسه عملها، إثر ضربة عنيفة على مؤخرة رأسه..
وحين أفاق وجد نفسه مقيدًا إلى أحد المقاعد، فتح عينيه فوجدهما تريان، كان يقف أمامه شاويش ضخم، كان مندهشا لأن هذا هو الشاويش الأول الذي يراه في حياته بلا شارب!.
كان يشتم وهو ينظر إليه ويقول:
- فتحتي يا روح أمك!.
الشاويش يكلمه بصيغة المؤنث وهو لا يعلم سببًا لذلك، ولولا أنه الوحيد الموجود لما فهم أنه المعنيّ بالحديث، شيء آخر جعله يدرك أنه المقصود، حين فوجىء بقبضة سخية ترتطم بفكه، شعر بالغيظ، ألم الغيظ كبير جدًا مقارنة بالألم العادي خاصة أنه مقيد، للحظات لم يستطع الحديث، ولم يدرك ماذا يقول.
- عايزة تبني كنيسة يا روح أمك!.
- إنتو مالكم يا ولاد الكلب!!.
لم يدر مايكل لماذا جرى السباب على لسانه، ليس من الذكاء استفزاز الشاويش وهو مقيد، لهذا توقع الثمن الذي سيدفعه وقد كان عددًا من اللكمات كفيل بمداورة رأس فيل..
تساءل مايكل في أعماقه هؤلاء يقتلون الشيوخ والملتحين ويعتقلونهم بتهمة يعرفها الجميع هي إسلاميتهم، ويعترضون على بناء كنيسة!، أي دين يتبعون؟. مع اللكمة الأخيرة سمع مايكل الشاويش يقول:
- شفت فيلم إحنا بتوع الأتوبيس!.
دوار يكتنفه فلا يعرف أين يقف الشاويش!.
لكمة أخرى.
- ما تردي يا روح أمك!
بنبرة أثقلها الدوار، قال مايكل الذي رأى الفيلم:
- لا!.
لكمة أخرى.
- خسارة أصل عادل إمام عمل فيه عجين الفلاحة، إنتي هتعملي إللي أسود من كده يا روح أمك..
يفقد مايكل وعيه قبل أن تصل إليه اللكمة التالية، وآخر ما يدور بخلده أن هذا شاويش مثقف حقا..
وحين أفاق مايكل هذه المرة وجد نفسه يرقد في فراش نظيف، قديم ورث ولكنه نظيف، تطلع إلى الحجرة من حوله فوجد منضدة صغيرة فقط بالإضافة إلى سريره وهي كل ما تحتويه الحجرة، بابها مزوّد بنافذة صغيرة مغلقة تفتح من الخارج، فكر في محاولة فتح الباب، ولكنه توقف بعد أنا جال بذهنه أن كل ما سيفعله هو أنه سينبههم إلى استيقاطه واستعادته لوعيه..
أدرك سخافة الفكرة عندما لمح تلك الكاميرا في ركن الحجرة في نفس اللحظة التي كان مقبض الباب فيها يدور ليفتح..
برز من الباب رجلان، أحدهما قوي مفتول العضلات والآخر شاب وسيم تجاوز الثلاثين من عمره بأعوام قليلة، بحث مايكل ببصره عن الشاويش اللعين الذي مازال رأسه يدور من لكماته حتى الآن، ولكن لم يبد له أي أثر..
قال الشاب الوسيم:
- أنا مش عايزك تزعل يا مايكل، الشاويش عبد المحسن اتصرّف من دماغه، هو مقالكش كان بيضربك ليه؟.
ينظر إليه مايكل في حذر وصمت وينقل بصره إلى الكاميرا المراقبة الموجودة فوقه، إلى من تنقل الصورة؟ تخيل والده جالسًا أمام شاشة التلفاز يرمقه في شماتة بعد أن رأى ما كان يحذر ابنه منه وقد تحقق.
- مقليش أي حاجة!.
- افتكر كده..
ينظر إليه مايكل، ويقول وقد استعاد رباطة جأشه:
- قاللي إني حعمل الأسود من عجين الفلاحة!.
ينظر له الشاب في عتاب وهو يقول:
- وقال كمان إنك عايز تبني كنيسة، صحيح الكلام ده يا مايكل؟.
- مش أنا إللي عايز أبني المنطقة كلها مسيحيين ومحتاجين كنيسة، إحنا عشان نروح أقرب كنيسة ساعة بالعربية، على إيه الذل ده كله؟..
سقط التصنع كله فجأة والشاب يقول:
- ليه كده بس يا مايكل؟.
مع لكمة شديدة من الرجل مفتول العضلات لوجه مايكل، كل ما حدث هو تغير ساحة التعذيب، هو الآن حر غير مقيد ولكنه منهك خائر القوى، استفزازهم أكثر سيقتله هو:
- ذل إيه يا مايكل؟ إنتو عيشتكم هنا زي الفل، مش كفاية عمو نجيب، كمان عايزين تزوّدوا أجراسكم في البلد!.
انتظر لكمة أخرى ولكنها لم تأت، فتح عينيه فوجد الشاب يتأمله بذات اللطف المصطنع..
- وإنتو خايفين منها ليه كده؟ إنتو محسسينا إن الكنيسة دية إللي حتوقف دينكم كله..
لكمة أخرى.
- عيب يا مايكل ديننا مش حيقف..
- عشان معندكمش دين!
لكمة أخرى أشد، هنا الرجل لا بأس به فهو يلكم على فترات على الأقل، قال الشاب في لهجة عالية محذرة:
- عيب يا مايكل مش كفاية سايبنكم تعيشوا هنا!.
- متعرفش تعمل حاجة لا إنت ولا جنسك في موضوع عيشتنا، وكفاية إن بلد زي أمريكا فيها أغلبية مسيحية سايبة كام مسلم يعيشوا على أرضها بنفس الحقوق!.
- إنت شكلك حتتعبنا يا مايكل!.
انتهى الشاب من عبارته لينهال مفتول العضلات على مايكل باللكمات والركلات، لم يفقد مايكل وعيه هذه المرة، فقط شعر بأنفه ينزف وبكدمات عملاقة تحت عينيه، مع هذه الكمية من الإصابات لابد من أسبوع حتى يتركوه على الأقل، ما لم تكن هناك إصابات أخرى..
ترك الرجلان وجهه ينزف وانصرفا، كانت المرة الأولى التي يحتفظ بوعيه لفترة منذ خرج من منزله، وإن أثار هذا ذهوله بعد كل هذا الضرب الذي تلقاه..
فوجىء حين وجد الباب يفتح ويدخل مفتول العضلات ليضع بجواره دلوًا لقضاء حاجته، تساءل مايكل عن أهميته إذا كان هو لم يأكل شيئا منذ أيام، شغلته آلامه بنفسه وجسده عن كل ما حوله، كان يشعر بأن الكدمات في جسده لا تساوي ذرة من ألمه الداخلي، ألم بانكساره وهو يرى كيف تخلى عنه أهله وعذبته حكومته لمجرد أنه يطالب بحق صغير من حقوقه..
تساءل في أعماقه عما يعدونه له في الأيام القادمة، ما الشيء الأسوأ من عجين الفلاحة؟..
عجين الفلاحة تلك الرقصة الشيطانية التي على المعتقلين أداؤها وهم راكعون أرضًا، أحيانا تكون الأرض ملوّثة بالزجاج، أحيانا أخرى بالبول ومياه الصرف غير الصحية..
ما هو الأسوأ؟، تقييد ولكمٌ وركلٌ وضربٌ متواصلٌ وفقدانُ وعي، هل سيقتلونه؟ ربما ينتهكونه جسديًا فهم يفعلونها كثيرًا..لا يعرفون أن الاغتصاب والتحرش جريمتان يعاقب عليهما القانون، لا بل هما الآن القانون ذاته!
استبعد هذا الاحتمال الأخير، لأنه يعني تحوله إلى خصم شخصي وهم يبتعدون عن هذا أحيانا، هو أيضا معروف ولإن خرج لتكونن فضيحتهم عارمة، وهم لا يتركون شيئا فادحًا كهذا يمرّ إلا في لحظات انتشائهم، هم الآن مهزوزون مهزومون، وإلا ما الذي يدفع أرفع جهاز أمني بكل رجاله لمطاردته لمجرد أنه يطالب بحق بديهي من حقوقه!.
عاد تهديدهم يلح على رأسه..
ما هو الأسوأ من عجين الفلاحة؟.
- يا رب تكون عقلت يا مايكل..
باغته الصوت وشعر بالباب يفتح بعد قرابة الساعة جائلا في خواطره قبل أن يجد الشاب.
- مش حتقولي عايز تبني كنيسة ليه يا مايكل؟.
ما هذا الغباء؟، هذا الشاب أحمق أو يحاول أن يبدو كذلك، فكر مايكل:
- عشان نصلي، المسلمين بيبنوا جامع ليه؟.
- واضح إن لسانك لسه طويل، يا مايكل أنا بحبك، إنت مسيحي وأقل تهمة حتتقال عليك كله حيصدقها، تحب تتآمر على النظام ولا تثير المنظمات الخارجية ضده؟، أقولك إيه رأيك بلاش ده كله ونلبسك تهمة عادية خالص، سلاح أو مخدرات وصدقني ترحيب الناس بيك في السجن حيكون أحسن من ترحيبنا بيك في المعتقل!.
لست بهذه السهولة أيها الأوغاد، فكر مايكل أنهم لا يستطيعون فعل هذا وإلا لفعلوه..
سيكون هذا ظاهرًا للغاية وستتدخل الكثير من المنظمات الحقوقية باسمه لفضحهم، تساءل عما سيحدث في العالم الخارجي الآن، وهل هناك أي تأثير تركه غيابه؟، حرص ألا يظهر شيء مما يعتمل في أعماقه على وجهه، قال وهو يواجه الشاب ويبدي الاستسلام:
- وأنا إيه إللي ممكن أعمله؟.
- حبيبي يا مايكل..تبطل تتكلم على بابا وتولع الناس وتقولهم يطلبوا حاجات مش بتاعتهم وتفهمهم إنها حقوقهم!.
يفكر مايكل قليلا قبل أن يغمض عينيه في استسلام لمصيره هذه المرة وهو يقول:
- آسف مش حقدر!.
هتف الشاب في صرامة من لا يملك الوقت:
- يبقى تبطل تقولهم يبنوا كنيسة عندنا!.
فتح مايكل عينيه أخيرًا وهو يقول بعد أن ابتسم للمرة الأولى منذ خروجه من منزله:
- موافق!.
غادر مايكل المعتقل وهجر المدينة بأسرها، وظل طيلة حياته يتساءل عما هو أسود من عجين الفلاحة الذي كانوا يعدونه له، وقد برّ بوعده للضابط ولم يتحدث عن بناء الكنيسة في منطقتهم بعد الإفراج عنه قط، بل ظل يطالب طول حياته بأن يكون بناء الكنائس سهلا كالبيوت، في جميع البلاد.


تمت
شكرا لتعليقك