رواية - طارق عميرة
الجزء الثاني :
تلفتّ أمير حولهُ بحثًا عن مصدر الصوت , لكنه بدا له بعيدًا يغيب عن مجال رؤيته المحدود , وهو لم يعرف أي إتجاه يتحدث بالضبط , ربما لم يأتي الصوت من الأمام لكن من أي جهة أتى من الخلف ..
قرر أن يدور ثلاث دورات كاملة حول موضعه , كل دورة أوسع من ذي قبل , ما الضير ما دام يشعرُ أنه داخل دائرة تدُور طوال الوقت, يدور حول نفسه لدقائق فلا يجد شيئًا أو يسمع شيئًا آخر , هل كان يتوهم ؟
يُعاود الجلوس على المقعد الإسمنتي وما كاد جسده يلمسه حتى تدوي الصرخة مرةً اخرى بصورة أشد فينتفض ويعدُو تلقائيًا جهة اليمين , خيّل إليه أنا قادمة من هناك , ميّز فيها صرخةً انثوية واضحَة هذه المرّة .
بعد عدة ثوان يتوقف ولا يبدُو أن يرى شيئًا , اللعنة , كيف يشبه هذا الرصيف نفسه إلى هذا الحد , ما هو , كيف يطول ويصغر ؟ القواعد المجهولة لهذا العالم المجهول تقُود للجنون , الآن يعلم يقينًا أن سعيد قد نال رحمته ..
يصيح :
- من هناك ؟
يسمع صدى صوته يتردد في الفضاء فيكرر نداءه , تجيبه صرخةٌ أخرى أقرب فيكمل عدوه تجاه الصوت وهو يصيح :
- من ؟؟؟!
رغم أنه لا يرى أبعد من عدة أمتار , لكنه بعد عدة خطوات عدوًا رأى المشهد واضحًا , كان خيال امرأة واضح من شعرها الثائر وتكوينها الأنثوي , لكنها كانت مقيدة من إحدى يديهَا إلى أحد الأعمدة بسوار معدني أسود ضخم يحيط بمعصمها الأيسر ..
يقترب منهَا عدوًا وما إن يصل إليها حتى يسألها وهو يلهث :
- ماذا هناك ؟ , من فعل بك هذا ؟
تقول باكيةً :
- لا شيء , أفزع كلما أراهم , من أنت ؟!
يتلفت أمير حوله ويقول :
- تري من ؟
- إنهم يقتربون ويذهبون ..
يسألها أمير :
- من ؟!
- الذئاب ..
عندما ينظر أمير هذه المرة يرَاهم , يرى ذئبًا لونه لون الدم وعينه بلون النار ينظر جهتهما ويعوي فيأتي البقية , يقف جوار الفتاة والرعب يغزوه والذئاب تلتف حوله في دائرة , الآن فقط يندم على لحظة هجره للقطَار .
تقول لهُ الفتَاة:
- لا تتحرك , لن يقتربوا منك هنا , لكن إذا ابتعدت عني سيمزقونك ..
يقول لهَا أمير :
- لا تقلقي , قدماي لا تقويان على الوقوف , سنموت سويًا هنا ..
تقول له و قد توقفت عن البكاء ليحل الخوف والترقب محله :
- فقط انتظر بجواري , منذ ساعات وهم يدورون حولي هكذا , وكأن هذا القيد كما يقيدني لهذا العمُود فإنه يحميني منهم وهم لا يجرؤون على الاقتراب منه لحد معين ..
يسألها أمير :
- لماذا ؟ من أنت ؟ ومن فعل هذا بك ؟
تقٌول له وهي تنظر للذئاب التي تزوم وتعوي وتدور في جنون حولهم :
- أنا منال , وأنت ؟
تبدو ملامحهَا مألوفة لأمير الذي تتعرف ملامحه , يبدو على وجهه التذكر , يقول لهَا :
- ألست تلك الفتاة التي ..
تقاطعه :
- نعم , ولم تحن فرصة لأشكرك أبدًا , ربما لهذا ألتقيك هنا ..
يتلفت حوله في رعبٍ وتوتر :
- أي شكر الآن , دعينَا نفكر في هذا المأزق , إن عددهم يزداد حولنا , ويبدو أنهم لا ينوون المغادرَة , اسمي أمير بالمناسبة..
كانت الذئاب تدور وتحاول الاقتراب ولكن كما لو أن درعًا خفيًا يمنعها , يسأل أمير منال :
- من فعل هذا بك ؟
تقول له :
- الضيف .
يسأل :
- لماذا حماكِ من الذئاب و لم يأخذك للقطار ..
تقول له :
- لا أعلم , منذ جئت هنا ولا أفهم أي شيء , ولا أعرف أي شيء ..
يقول لها :
- وكيفِ جئت إلى هنا ؟
تنظرُ له منال بعينيها العسليتين , تقول :
- هل سأحكي لك هنا , ونحن في هذا الحصار , لا أملك حتى القدرة على الجلوس أو الحركة ..
- لا اشعر برغبة في ذلك , لا يوجد تعب هنا , نحن لا ننام , وكأننا في ساعة واحدة لا تمضي أبدًا ..
يفكر أمير , لقد أنقذ منال بالأمس وهي الآن تحميه , لا ريب أن هذه الذئاب كانت ستجده , لا ريب أنها كانت ستمزقه , الآن وهم جميعًا حوله لكنهم غير قادرين على الاقتراب وهو غير قادر على الحركة , جرب أن يبتعد خطوة عن منال ليقفز أحد الذئاب قريبًا جدًا منه فعلم أنها تلك الهالة التي تحميها , ربما بسبب القيد , ربما صنعها الضيف , ربما غير مرئية , ربما تكون منال كاذبة أو ساحرة , لا يعرف فقط يعرف أنها تحميه الآن وإلا كانت جثته ممزقة ورأسه تنظر لهَا منتظرة أن يحملها الضيف في قطعة جلدية أو قماشية ..
يسألها :
- فلنتحدث في أي شيءٍ ما دمتِ لا ترغبين التحدث عما فعلت ..
- ما فعلت , وكيف تعرف ما فعلت ؟!
تسأل منال أمير في تعجب وقد بدأت تتوجس منه , يقول لها :
- بالتأكيد وإلا فلماذا أنت هنا , كل من جاء لهذا المكان فعل شيئًا ما
قالت له وهي تنظر لوجهه وتثبت عينيها وكأنها لا تريد أن ترى ما حولها :
- لقد قتلت زوجي !
- ماذا ؟؟؟
كانت مفاجأة شديدة لأمير الذي لم يتوقع , ولم يتوقع أن تقولها بهذه البساطة , تابعت :
- لقد فشلت للأسف , رغم أني طعنتهُ في رقبتهِ ولكنه عرفتُ أنه نجا , الكلابُ اللذين أنقذتني من أيديهم أصدقاءه , كان يهينني بكل الطرق التي يستطيعها بل ويجرب الجديد دائمًا وكنت أتحمّل في صبرٍ عجيب , كنت أحبه , وأقبل أن يؤذيني العالم كله لكن لا يؤذيه أحد .
- فما الذي تغيّر إذن ؟
قالت له :
- أخبرني أنت ماذا لو أنك في موضعي وعرفت أن زوجتك ترافق نصف أصدقاءك وتقتلهم بعد ذلك ..
يسألها أمير متفاجئًا :
- ماذا ؟ كان سفاحًا ؟؟
تقول :
- ليته كان كذلك , لربما اتهمته بالمرض النفسي وأودعته مصحة أمراض عقلية أو أبلغت عنه , لقد كان قاتلاً , هذه كانت مهنته , لأعوام عشت في خداع وفي يومٍ واحد عرفت أن اليوم الذي يجلس فيه زوجي في المنزل هو اليوم الذي تأخذ فيه روح أو أكثر يومًا آخر للحياة .
تدير وجهه جهة الذئاب وكأنما تخجل من النظر وهي تتابع :
- كان يهينني كما قلت لك , لربما قام بخنقي عدة مرات , لربما أطفأ سيجارته في يدي مرتين , لهذا كانت معرفة سره خطر لو عرفه سيقتلني فورًا , كانت المرة الأولى التي أفتح حقيبة خاصة به , عشرات البطاقات الشخصية بعضها مضرج بالدماء وبعضها صدر حديثًا لأشخاص مختلفين , أموال وتذكارات و علب من الرصاصات , ولم يكن هناك وقت كاف للبلاغ , سيكون قد اكتشف تغير الترتيب واطلاعي على سره وستضاف بطاقتي إلى هذه البطاقات التي ستختفي قبل أن يحرر محضر اختفائي في قسم الشرطة ..
تعاود النظر له وهي تغمغم :
- لربما تتساءل الشرطة الآن وتنتظر أن يفيق ليسألوه عن البطاقات التي وجدوها مع جثته التي أنقذوها بعد أن أبلغت بقتله وقتها , عندما هبطت كنت مسرعة , عندما انتشر خبر ما فعلته لم أكن قد ابتعدت كفاية , كاي مجرم كانت له كثير من الصلات والكلاب اللذين يجاملونه , حتى لو بانتهاكي , هكذا حاصرني أصدقاء سعيد لكن القدر أرسلك لي في تلك اللحظة ..
يُباغت أمير :
- سعيد ؟!!! هل زوجك اسمه سعيد ؟
- نعم
- أسمر قليلا له سن مكسور ؟
تسأله باستغراب :
- هل تعرفه ؟
- يا إلهي , نعم , أعرفه , أعرفه في هذا القطار منذ ساعات ..
نظرت له منال ورغم بكاءها السابق وخوفها من الذئاب إلا أن هذا الخوف الظاهر في عينيها لأمير عندما أخبرها بوجود سعيد , كان أكبر كثيرًا ..
لم تمنحهما الذئاب فرصةً كبيرةً للحديث , فقد بدأ صوت عواءهم يعلو , ولعابهم الذي يسيل على أنيابهم الطويلة بينما يتحركون ويدورون في سرعةٍ ورشاقة , يجيء في خيال منال كأنه دمها بعد أن تنغرس هذه الأنياب فيها , أما أمير فقد اعتاد المشهد وبدا يحاول التحكم في توتره وفزعه , وقد خفف وجود منال حدة الفزع لحد كبير , لكنه كان يشعر بشعره يشيب كلما عَلا صوت عواءهم .
يتذكر سجائره فيخرج واحدة ويشعلها , يقول لمنال :
- لا خلاص من هذا المأزق , هذه الذئاب لن تمل , إنها تزيد وقد تقيم حولنَا ..
تقول له :
- هل سنظل هكذا حتى نموت ..
للحظة يصمت ثم يقول :
- نموت , لا يبدو هذا , لا نحتاج طعاما أو شرابًا , لا نملك وقتًا لأننا لسنا في أي ثانية منه , كيف سنموت , هل سنظل هكذا للأبد ..
تقول له :
- سيأتي الضيف لأنه من قيدني , بالتأكيد سيعود لينقلني أو يقتلني
ينظر لها قائلا :
- لربما البقاء مع هذه الذئاب أفضل من صحبته , ثقي بهذا ..
تقول له :
- ربما يتوقف قطار هنا أمامنا.
يقول لها :
- كيف سنصل له والذئاب تحيط بنا , وان ذهبت ووصلت أنا , كيف ستصلين أنت وهذا القيد في يدك ؟
تعاود الدموع الظهور في عينيها ويأتي صوتها مرتعشًا :
- تقولُ بوضوح أنه لا أمل هنَاك ..
يقول أمير :
- أخشى أن الأمر كذلك ..
يصمت مفكرًا للحظة , ويقول :
- مالم تخبريني علاقتك بعبد الظاهر وشركاته
تنظر له في حدة وكأنما باغتها السؤال , قبل أن تقول له :
- منذ فترة أعلن عن حاجته لمديرة مكتب , ورغم أن زوجي كان يعمل نجارًا إلا أنني حاصلة على بكالريوس تجارة وبتفوق وعدد من الدبلومات , قال لي زوجي الذي كان يستعبدني أن علي أن أظفر بهذه الوظيفة , وبعد المقابلة الأولى كنت مقبولة للعمل كان وجهي جميلا حتى أنه كانوا يكسبون عملاء فقط من ظهوري , بمرور الـأيام تغيرت ملابسي تماما وكان سعيد يجبرني كل يوم على الخروج بشكل أكثر إثارة , وبالفعل صعدت في الشركة سريعًا حتى طلب مني مراقبة عبد الظاهر وبدأ في طلب معلومات له , وكما قلت لك كنت أنفذ له أي شيء , حتى طلب مني في يوم أن اخبره اين سيتواجد عبد الظاهر في مواعيد محددة , في هذا اليوم قتل عبد الظاهر بالرصاص وهو ما دفعني للبحث في جنون خلف زوجي لأنه الوحيد الذي كان غريبًا في طلباته بشكل أكد لي أنه منفذ الجريمة أو المخطط لها على الأقل , وكان هذا أكثر مما أحتمل ..
يغمغم متسائلاً وكأنما يخبر نفسه :
- إذن سعيد هو من قتل عبد الظاهر لهذا هو هنا ؟!
ثم نظر لمنال وقال :
- عبد الظاهر لم يمت بعد , ما يزال حيًا في إحدى غرف العناية المركزة بالتأكيد مثلنَا جميعًا , إنه هنا وهو يواجه مصيرًا شنيعًا .
بينما يدور حوارهما لم ينقطع عواء الذئاب الذي يخفت تارةً ويعلو أخرى , قال لهَا أمير :
- بعد أن هربت , كيف جئت لهنا ؟!
تجيبه منال :
- أنت أنقذتني مرّة , لكنك لم تكن موجودًا عند انتقامهم , لا أعرف كيف وصلوا لي لكنني كنت أسير في شارعٍ جوار رصيف صغير لا يتسع لشخص حين وجدت نفسي أطير , كانت سيارةً لكنني لم أعرفهم حقًا , لربما ظلمتهم , لكنني حين رأيت من ينظر من النافذة وجسمي ممدد مكسور ينزف , عرفت فيه أحدهم , كان أثر ضربتك ما زال طازجًا , وعندما أفقت لم يبد أنني أفقت , فأنا أعيش هذا الكابوس .
يقول أمير :
- ليس كابوسًا للأسف , إنه حقيقة ..
يسود الصمت وهما ينظران للذئاب حولهم في رهبة , تسأله منال :
- هل يمكنك إشعال سيجارة لي ؟
- هل تدخنين ..
- كلا , هل لديك شيء آخر لفعله ؟
يتجاهلها أمير ويشرد وهو يقول :
- حتى لو مضت الذئاب , سيظل الجحيم على هذا الرصيف , وكيف الخلاص منه .
تقول له :
- فقط أتمنى أن يتحرر هذا القيد ..
يقول ناظرًا للذئاب :
- أي قيد ؟ ذلك الذي يحمينا من هؤلاء , أليسوا قيدا أكبر وأكثر فزعًا , إن هذه الأرض نفسها مفزعة , لا حدود لها وهي في مكان واحد !
تقول له :
- لم أعد أريد شيئًا , فقط أريد الخلاص . أتمنى الموت ..
- هذا ما يرغبون به , أن تتمني الموت فلا تناليه ..
فجأة يتعالى عواء الذئاب وهم ينظرون نحوهما وينظرون للخلف , ثم يتحركون في هدوء قبل أن يعدو , ينظر أمير ماذا هناك , ليرى المتسولة تجر جوالها المتسخ , يفكر أن الذئاب وجدت وجبتها فهل الحركة آمنة له ؟
لذهوله , يجد ألمتسولة تخرج قطعًا من اللحم من الجوال وتلقي بها للذئاب التي تلقفها منها وتحوم حولها وكأنها سيدها المطيع , يدور عقل أمير في سرعة , هل تلهيهم المرأة للفرار , ينظر لمنال وللذئاب التي اتجهت جميعًا للمرأة المتسولة , لن يفكر بشأنها الآن عليه إستغلال الفرصة والإفلات , ينظر لمنال وفي عقله تدور فكرة الهروب ..
يلمح الفزع والأسى في عينيها وكأنما تقرأ أفكاره , لكنه لا يفكر بها الآن هناك ما هو أهم , هناك هذا الجحيم الذي يريد الخلاص منه , يقول لها أخيرًا :
- لا تخشي شيئًا سنظل سويًا أو نغادر سويًا ..
ثم يتلفت حوله قائلاً :
- ولكن لو استطعت فصل هذا القيد , إلى أين سنغادر ؟
يقولها ويدور عقله من التفكير حتى يكاد يجن , ينظر للمتسولة التي راحت تبتعد في بطء سائرة للخلف من حيث ظهرت وهي تعطي وجهها للذئاب وترمي لهم بقطع اللحم الصغيرة فيلتقطونها في الهواء أو يتنازعونها بينهم .
قالت له منال :
- هل ترى الضوء ؟
ينظر إلى حيث يشير فيرى الضوء القادم من بعيد , الكشاف ذو الاضاءة الساطعة الذي يعلن أن قطارًا قادمًا , يتساءل في أعماقه هل سيتوقف , يتابعانه ببصرهما في ضغفٍ قادمًا على البعد , حتى يصل أمامهما وقد هدأت سرعته تمامًا , يتوجسان , فلا معنى لهذا , سوى أن الضيف قد عاد .
عندما توقف القطار , لمح أمير نفس العربة التي هبط منها , كان سعيد وباهر ونورا هناك , يميزهم من خلف النوافذ رغم خفوت الضوء , وكان الضيف قد هبط ..
لم يعرف أمير هل يحزن أم يسر , هل خرج من المأزق أم دخل فيه , هبط الضيف سائرًا جهة منال مباشرة , وأخرج مفتاحًا من عباءته , بدا غير مهتم به وهو يفك قيدها وينظر له ثم ينظر جهة الذئاب التي وقفت تنظر له في توجس وقد أحاطت به ولم يكد ينظر تجاهها حتى وقفت في صفين منتظمين وجثت على أرجلها ..
يشير لمنال وأمير جهة القطار , وإشارته كأمر حتمي واجب النفاذ من سيعصيه بعد ما رأوه , في بطء يسيران للقطار لكنهما يروا جميعًا المشهد , هما ذاهبان إلى القطار والثلاثة في القطار ينظرون من النافذة , والمتسولة تتقدم بين الذئاب جهة الضيف الذي يركع على ركبته أمامها في احترام مما أثار ذهولهم جميعًا ..
تتقدم منه وتسأله :
- هل اكتملت رحلتك ايها الضيف ؟
يقول بصوته العميق بينما رأسه ينظر للأرض :
- كانا الأخيرين , الآن فقط تبدأ ..
تسأله :
- أسبعةٌ أنتم ؟ أنت تعرف القانون , عندما تعبرون الباب لا بد أن تكونوا سبعة , وأحدكم سيعود , فإن كانوا أكثر أو أقل , فلا سبيل للعودة ..
يقول دون أن يتحرك :
- سأعود ..
تقول له :
- إذن فلتُطِل الغيَاب ..
تستدير وتعود وما تكاد تختفي حتى تعدو الذئاب خلفهَا , بينما ينهض الضيف ويصعد إلى القطار الذي يستقر بداخله الجميع , وما يكاد يصعد حتى تسطع الأضواء أخيرًا في القطار وينطلق , ينظر لهم وللمرة الأولى يرونه بوضوح , ولم يحبوا ما رأوه , أي مسخٍ هذا..
يقف الضيف على رأس الطرقة , ينظر لهم ويقول :
- الآن تبدأ الرحلة .
يرد أمير :
- وماذا كنا نفعل إذن ؟
يقول الضيف وهو يسير ليستقر بمقعده جوار رأس عبد الظاهر دون أن ينظر لهم :
- كنتم تنتظرون ..
يسأله :
- فكيف تبدأ إذن ؟!
يقول الضيف :
- بالوصول .
يسأل باهر :
- وهل وصلنا ؟
لا يرد الضيف , بينما ينظرون لبعضهم و الخوف يأكل داخلهم , والفزع يشل أفكارهم , منال التي رأت ان سعيد جن ظلت بجوار أمير , رغم هذا ظل سعيد ينظر لها شذرًا ولعابه يسيل وهو يبكي تارةً و يسرح أخرى ويضحك ثالثة , أما أمير فلم يعد يملك أي تعاطف جهته بعد أن عرف حقيقته ..
كما أنه كان يفكر في كل ما رآه , كان ما يزال مذهولاً وهو يتذكر الضيف جاثيًا على ركبته أمام المتسولة, المتسولة التي تتحكم بقطيع الذئاب وتستطيع طرد الضيف و تحذيره , إنه الضيف فمن تكون هي ؟
تسطع الإجابة في ذهنه فجأة , صاحب المنزل أيها الأحمق !
قالت للضيف أن سبعة يدخلون ويعود واحد , هل يعني هذا إن بإمكانه العودة ؟ وهل سيعود ليتوه بين القطارات أم سيعود خارجًا من هذا الكابوس ؟
يسمع الجميع صوت الضيف العميق وهو يقول :
- أرى ما تفكر فيه , أنت أحمق , لن يكون إلا أنا ..
يتسائلون جميعًا أيهم يقصد ؟ ينظرون لبعضهم وفي أعماقهم يظن كل منهم أنه المهدد , يعود الضيف لصمتهِ , يقول أمير لهم :
- يبدو أنه ما من خروج , دعونا نتحدث قليلا ..
تقول نورَا :
- وفيم نتحدث ؟
تقُول منال :
- فليقل كل منا أمنيته الأخيرة , فلربما لن نقولها ثانية ..
يقول باهر :
- وهل تحتاج هذه سؤالاً , بالتأكيد الخروج من هنَا .
يقول أمير :
- ليس هذا ما أتمناه بقدر ما أتمنى ان أفهم يقينًا ما نحن فيه ..
يقول باهر :
- وماذا بعد أن نفهم , إنها النهاية على أية حال .
يقول أمير :
- لربما إذا فهمنا نخرج !
تقول منال :
- أتمنى أن أعيش يومًا واحدًا كما أردت
تقول نورَا :
- أتمنى لو رأيت أمي في لحظتها الأخيرة ..
يعود الصمت ليسود إلا من صوت القطار وكأنما يعلن فشل محاولاتهم في تزجية الوقت المرعب , على جانبي الطريق كان العالم غارقًا في الضباب الذي لا يظهر منه شيء , كأنما يسير القطار في العدم ..
يقول الضيف بصوته العميق قاطعًا الصمت ليذعروا جميعًا :
- النزول عند الوصول , على الباب إسمًا إسمًا تخرجون , فردًا فردًا تسمعون النداء , من سمع فليلبّ فلا مكان للهروب , ولا مفر من العذاب ..
يقولها في بطء يجلعهم يتأهبون مترقبين والفزع ينخر فيهم , يضيف :
- الأول الأقل شرًّا فالأشر هو الأخير .
ثم ينهض وهو يمسك برأس عبد الظاهر ويخرجه من قماشته , و يسير عابرًا بينهم بينما الرأس تنظر له في هلع , يقف على باب القطار الذي يهديء من سرعته مجاورًا ببطء لرصيف يميزون فيه الاخلتاف للمرة الأولى عن جميع ما سبق , لا توجد مقاعد , لا بل توجد يلمحون من نوافذ القطار الذي يزحف ليعلن الوصول إلى المحطة التي يرقبونها منذ البداية ..
يلمحون المسرح الضخم بحجم حوت أزرق , يلمحون المنصة التي تتكون من جماجم بشرية مستقرة فوقه , بينما أمامها تمتد مساحةٌ لا يبصرون آخرها , يلمحون الذئاب الحمراء ترعى كالغنم بينما الضيف توجد ما يقرب من ألف نسخة منه في أرجاء المكان يرون نمورًا شرسة وتماسيح ووجوه ذات قرون وأنياب في هيئة الإنسان , يرون الارض تلمع بالدماء البارقة كأنها بورسلين , يرون مشاعل النار وعيونها المتناثرة في كل الجهات , يرون أناسًا يؤكلون وأناسًا يمزقون وأناسًا يهربون وأناسًا يزحفون على بطونهم بينما تدهسهم الأقدام والمخالب ..
يهتف أمير :
- يا للهول
ولم يبد أن أيًا منهم قادرًا على قول شيء مع توقف القطار تمامًا ليفتح الضيف بابه عن مصراعه ويقف على جانبه قائلاً :
- يا من دنستم الحياة , أهلاً بكم في الباب الأول للجحيم , فلتهبطوا ..هذه محطتكم الأخيرة ..
ثم ينظر لمن يشبهه تماماً خارج الباب الذي يقُول له :
- فليحضُر الأول ..
يرفع الضيف رأس عبد الظاهر ويناولها توأمه بينما يظل واقفًا على الباب , أما شبيهه فيلتقط الرأس ويسير عدة خطوات بينما يرمقه الجميع في فزع وقد عرفوا للمرة الأولى أنهم يشعرون بقلوبهم أيضًا بعد أن سقطت بين أقدامهم ..
لقد وصلوا أخيرًا للمحطة الأخيرة ..
يقُول شبيه الضيف وهو يقترب من المنصة المرعبة :
- المُعذّب الأول و إسمهُ عبد الظاهر .
ويضع الرأس على مقعدٍ يظهر من العدم أمام المنصة ليواجهها , أما المنصة فيتجسم خلفها كيان يتكون أمامهم في هيئة جسد قوي له جناحان عملاقان ورأس صقر , يميزه أمير على الفور بينما تنظر المجموعة من خلف نوافذ القطار في ذهول , يهتف باهر :
- ما هذا الجحيم ..
يقول أمير :
- إنه حورس !
- حورس ؟!
تتساءل المجموعة بينما يكتمل البناء ورأس أمير يدور , ما علاقة حورس بالجحيم , وهل هناك شيء هنا يحدث حقا , هل هذا حقيقي حتى إن لم يبد أنه كذلك ؟ يشعر بالإجابة داخل نفسه رغم أن عقله يأبى الاعتراف , نعم إن هذا حقيقي تمامًا .
يقول شبيه الضيف وهو يقف خلف المقعد الذي توجد عليه رأس عبد الظاهر :
- الأول , وإنه لأكثرهم جريمَة , وأقلهم شرًا !
يقُول حورس :
- فما جريمته ؟
يشير شبيه الضيف إشارة بيده لترى المجموعة بالقطار أنه قد اختفى , حورس قد اختفى , المنصة باكملها اختفت وظهرت محلها مشاهد حية من حياتهم التي نسوها , في البدء تبدو بلا مغزى قبل أن يظهر أمامهم شاب مراهق , يميزه أمير على الفور , عبد الظاهر عندما كان صغيرًا , كان يتسلل لحجرة مكتب , كان هناك كوب شاي ساخن , كان يضع مسحوقًا به ليأتي رجل عجوز يجلس على المكتب بعد لحظات بينما يجلس عبد الظاهر أمامه , بينما يرشف العجوز الكوب بعد أن اخذ أدوية متعددة , يراقبه عبد الظاهر في شغف , أخيرًا يجد العجوز نفسه غير قادرًا على التنفس أو النهوض , أخيرًا تخرج أنفاسه الأخيرة أمام عبد الظاهر الذي ينظر له في برود وعلى وجهه ابتسامة عابثة حتى تخرج روح العجوز تمامًا , عندها فقط يتظاهر عبد الظاهر بالفزع والأسى وهو يصيح بأعلى صوته :
- أبي ؟!
تتغير ملامح المشهد تمامًا لكنه لا يعود لسيرته الأولى , يتحول النور إلى ظلام , وعبد الظاهر المراهق يكبر فجأة عشرة أعوام بينما يقف على شاطيء بحر يرمق مركبًا قادمًا على البعد , يمسك بمنظارٍ مقرب بيديه وينظر من خلاله متلمسًا الرؤية في هذا الظلام ؟, يراقب اقتراب المركب من الشاطيء ورجاله ينتظرون , لقد أعد لهذه الصفقة منذ زمن , ولن يسمح لأحد بإفسادها , لهذا عندما ظهرت دورية الشرطة بسيارتها الزرقاء وأفرادها الأربعة كان لا بد أن تختفي , فقط لأن أحدهم قال زاعقًا وهو يؤدي وظيفته : من هناك ؟ ماذا يحدث ؟
صحيح أنهم كانوا يحملون أسلحة ولكن من قال أنها كانت كافية لأي شيء , لم تكن تكفي حتى هروبهم وليس المواجهة , لهذا عندما ألقى عبد الظاهر جثثهم في الماء بعد أن أتم صفقته لم يشعر بكثير من الندم , فالحياة ما زالت أمامه خاصة وهو ينظر إلى علب السلاح التي وصلته حديثًا عبر البحر , فيما بعد سوف يرسل رجاله فستكون هذه آخر صفقة يؤديها بنفسه .
مرةً اخرى ينتقل المسرح لمشهد آخر , بينما يشعر الركاب في الرحلة كأنهم دخلوا عالمًا أكثر ضياعًا من ذلك اللذي كانوا فيه , ويبدو لهم أنهم الآن فقط فهموا أن القطار بكل طريقه كان رحمةً لهم ..
يهمس باهر مرتجفا لأمير بينما هما يراقبان :
- أهو الحساب ؟
يقول أمير :
- تبدو لمحةً منه , إنما للحساب يومه , وهو ليس هذا اليوم ..
يقول باهر :
- فلم يحدث ما يحدث إذن ؟
يقول أمير :
- لا تسأل عن ما لن تفهمه , لربما تفهم لكنك تتظاهر بالعكس , لكن ما أعرفه أننا لسنَا أموات بعد , والحساب الذي نعرفه , فذلك هو وقته..
يقول باهر :
- وما أدراك , لربما متنا ..
يقول أمير :
- يرون الموت رحمةً لم نستحقها بعد ..
يقُول باهر :
- لماذا لا نستحقها ؟
لا يبد أن أمير يسمعه , ينظر له في غضب وهو يشير للمشهد أمامه دون أن يجيب ..
أما بالخارج فكان المشهد لعبد الظاهر وهو يبدو كبيرًا نوعًا ما , كان يتسلم حقيبة بلاستيكية حافظة , تلك المخصصة للأعضاء البشرية المنقولة التي ستزرع فيجب الحفاظ عليها , أما من كان يسلمه تلك الحقيبة فقد كان باهر نفسه وإن بدَا أكثر حيوية وأصغر سنًا , يتابعون المشهد البليغ بينما نورا فزعة وسعيد لا يكف عن الرعب حتى أنهم قرروا تجاهله دائمًا ..
بينما في الخارج فقد تكرر المشهد , عبد الظاهر يقف أمام باب غرفة للعمليات وفي كل ثانية يخرج طبيب ليعطيه حقيبَة ..
هل يدور المشهد أم هم من يدورون حوله , ليروا المشرحة السرية المليئة بالجثث التي اقتلعت كلاها وقلبوها وقرنياتها وكل شيء صالح منها .
تمر المشاهد بينما أمير سفكر و يجد رابطًا أخيرًا , لكن ليس هذا وقت الفهم , يزجر عقله محاولاً تركيزه في نقطة واحدة , كيف يخرج من هنا , المتسولة قالت سبعة يروحون فيعود واحد وقد قرر أن يكون هذا الواحد , ولكن كيف سيواجه الضيف بكل قوته وسطوته وسحره وهو الذي لا يملك اي شيءٍ إلا العقل ..
عندما قال له الضيف في القطار أنه من سيعود , لقد علم أنه يخشى أن لا يكون العائد , وإلا فلماذا يرهبه , لماذا قالها دون مناسبة وهو يتلصص على أفكاره , لقد كان خائفًا مثله ..
بعد عدة مشاهد عادت الصورة لصورتها الأولى , رأس عبد الظاهر المتسعة هلعًا على المقعد وهي ترمق حورس , والضيف يقف من خلفه بينما يقول حورس :
- الشر هو الشر , رغم أن المال يشتري كل شيء , رغم ان أمك ساعدتك في قتل أبيك , رغم أن الوزير ساعدك في صفقاتك , رغم أن الأطباء ساعدوك في تجارتك , رغم أن كثيرين ساعدوك في جرائمك بمقابل او بدون , رغم أنك أكثرهم جرائمًا فستكون أخفهم عذابًا ..
يحاول أمير فهم هذا المنطق العجيب من مكانه داخل القطار , بينما يتابع حورس :
- لربما لو رفضوا جميعًا مساعدتك وإثارتك لما حدث شيء , لكنك صنيعتهم جميعًا , فالأجدر أن يكونوا أسوأ ..
يشير حورس لشبيه الضيف الذي يمسك الرأس بيده ويمدها بامتداد ذراعه تجاه المنصة , فيقول حورس :
- أخف العذابات لك , ضعوا رأسه في صندوق ..
يقول لشبيه الضيف الذي يمسك بالرأس :
- ولتفقأ عينه في كل ساعة , كلما خرجت له واحدة جديدة ..
بينما يوميء له الشبيه برأسه قبل أن يضع إصبعه في عين عبد الظاهر ويأخذ الرأس ويمضي , كان عقل أمير يدور بسرعة في تساؤلات عن جدوى هذا العذاب وإلى متى سيدوم , وإذا كان هذا الباب الأول فما الذي سيوجد بعد ذلك ؟ يخرج عقله مجددا من كل دوائر التفكير , عليه التركيز على شيء واحد , الخروج من هنا , لن يرضخ لهذا الهزل , لن ينتظر حتى يعرف درجته في الشر , قالوا أن عبد الظاهر كان أكثرهم جرائمًا , لكنه كان أقلهم شرًا , فما الذي فعله الباقون بالضبط !
بعد لحظات كانوا جميعًا منهارين , باهر مذهول مثله وسعيد مجنون تماما , نورا تبكي بينما منال متماسكة وكأنما اعتادت الأمر واستسلمت له منذ كانت بين الذئاب , لكنها أيضًا كانت شديدة الفزع بينما يتقدم شبيه آخر إلى باب القطار وهو ينظر للضيف الواقف على الباب قائلاً :
- فليحضُر الثاني .
يدير الضيف رأسه إلى داخل القطار , ويأمر أحدهم بالتحرك , وللغرابة يجد المقصود نفسه يجر جرًا بقوة لا يراها إلى باب القطار , بينما ينظر له الجميع في تعجب و دهشة ..
وقف سعيد على الباب قبل أن يفسح له الضيف ليتقدم نحو شبيهه الذي يمسك بكتفه ويسير خلفه مادًا ذراعه , حتى يصل إلى المقعد ليجلس سعيد المذهول عليه وقد انتبه في رعبٍ لما حوله , لم يعلم أحدهم هل وعي ما حدث لعبد الظاهر أم لا , لكنهم جميعًا أشفقوا على مصائرهم , يقول شبيه الضيف وهو يقف خلف سعيد وينظر تجاه حورس الواقف على المنصة :
- الثاني , وإنه لاقساهم قلبًا , وأكثرهم شهوانية .
يقول حورس :
- فما جريمته ؟
يشير شبيه الضيف إشارة بيده ليختفي المسرح مرةً أخرى بينما يشاهد الجميع من داخل القطَار ..
يبدأ العرض بسعيد في مراهقته وهو يدق بالشاكوش ليصلح زاوية في أحد المكاتب في شقةٍ ما , يخرج الرجل ويعود بعد ثوانٍ وفي يده كوب من العصير , في تلك الثوان كان سعيد قد غافله وفتح درج المكتب ليلتقط رزمة أوراق نقدية خضراء ويدسها في ملابسه سريعًا وقد كان ماهرًا في إستخدام يده ..
ينتقل لمشهد لسعيد الذي يظهر بشارب في هذا المشهد ويبدو أنه في بداية شبابه , يركب دولابًا في إحدى غرف النوم بينما جواره تقف امرأة كاملة الثياب , ويبدو أنها وحدها معه وهو يقوم بعمله , انتهى سعيد من عمله بالدولاب واخرجت المرأة مالا وأعطته , لم تكد تعطيه ظهرها لتقوده للخارج حتى أحاط بها بقوة تحولت لعنف بالغٍ عندما قاومته , يغتصبها لدقائق تمر كساعات بينما يقهر مقاومتها هو الذي اعتاد امساك المنشار والمطرقة , عندما ينتهي يقول بوضوح أنه لا أحد سيصدق أنها لم تدعه بنفسها , عليها أن تخاف خاصةً أنها امرأة متزوجة ..
تشهق منال في القطار , تقول لرفاقها :
- الكلب , هذه صديقتي محاسن , أنا من أرسلته لها , لجـأت لي لأن زوجي نجار ولم تخبرني أبدًا عن الحادث , تساءلت لماذا لم تحدثني مطلقًا بعد ذلك وكنت أظن أنني عملت اللازم معها
لا يرد أحد , كانوا جميعًا يتابعون المشاهد في الخارج التي انتقلت من قتلٍ لآخر , وقد كان سعيد فنانًا , هناك من أغرقها , هناك من دهسه , هناك من أطلق عليه الرصاص ..
يتوقف المشهد عند جريمة بعينها , يبدو أنها امرأة كان لا بد من قتلها , زوجها يريد أن يرث لكنه ليس في المدينة , كلف سعيد بالمهمة , سعيد الذي لم يعرف أن لديها طفلا في الخامسة من عمره شاهده يغتصب أمه ويخنقها , عندما صرخ الطفل وانتبه له , دون أن يطرف له جفن , طارده ليكتم أنفاسه ثم يفتح الغاز ويشعل سيجارة يتركها خارجًا ويمضي , ينتقل المشهد لانفجار ثم لمشهد آخر ..
يقول أمير لرفاقه :
- يا للهول ..
ينظر لمنال قائلا :
- لقد كان زوجك سفاحًا , وحشًا , وإنه للأجدر بهذه الرحلة , وإني لا أفهم كيف تجيئين هنا وقد طهرتي البشرية منه ..
تقول نورا وهي ترمق النافذة :
- ربما لأنها تأخرت حتى فعلت ذلك ..
وفي الخارج كان المشهد لسعيد الذي يضرب فتاةً بعنف وهو يمهد لأمراضه الجنسية معهَا , كانت الفتاة هشة تمامًا حتى أنه قتلها بخلع رقبتها بينما يمارس قذارته ورغم هذا لم يتوقف ..
عندما انتهى المشهد كانوا جميعًا مبهوتون , هذه القسوة والبشاعة , لقد رايا فردين اهلكا ودمرَا قرىً وبيوت , يفكر أمير ماذا فعل بقيتهم , تفكر نورا ماذا سيكون جزاؤها , يفكر باهر أنه ملاك , تفكر منال أنها كانت يجب أن تقتله من اليوم الأول الذي عرفته فيه ..
ينظر أمير لمنال وقد بدا أنه يفهم كيف كان يهينها , يسأل :
- كيف لم تريه هكذا وأنت اكثر من تعرفين , لم يحاول التظاهر معك أليس كذلك ؟!
- كلا لم يفعل أبدًا كان قذرًا دائمًا , لكنه كان حريصًا كذلك ألا يخبرني بجرائمه , كنت زوجته رغم كل شيء ولم يكن ليقتلني وإلا حامت حوله شبهات أحالت حياته جحيمًا ..
يسألها :
- لم تشك به مطلقًا ؟
تجيب :
- وما فائدة الشك وأنت ذليلٌ لديه , كيف ستفكر في أي شيء غير إنهاء ألمك الذي جعلك تدمن لذته ..
يفكر أمير لربما هي على صواب , قال لها :
- كان بإمكانك الإنفصال على الأقل , لا تقنعيني أن الحب هو السبب ..
تقول له :
- هل ترى شخصًا كهذا يمكنك أن تتفق معه على ذلك ..
يتابع أمير النظر من النافذة إلى المشهد المعروض , سعيد في إحدى ورش النجارة الخاصة به ويمسك أحد الاطفال اللذين يعملون لديه وهو يتحسس جسده وينفرد به قبل أن يأخذه لغرفة بالداخل , لا ينبسون بحرف وهم يتابعون المشهد بينما يعرفون أنهم جميعًا سيقتلون سعيد إذا نجا من الجحيم وعاد ولكن لحسن حظه أو لسوءه , فإنه لن ينجو ..
عندما انتهى العرض وعاد المشهد لصورته الأولى , سعيد الجالس أمام المنصة وشبيه الضيف خلفه بينما حورس جالس ينظر له ويقول :
- كنت على الإنسان لعنَة , والشر هو الشر , وإنك لأشرهم سلوكًا , وأفظعهم جرائمًا والحق منبع الشر نفسك , وإن لك لدينا لعقاب فريد ..
يتابع بعد لحظة :
- في الشر فقت الجميع , وفي العقاب أمنت , لم تكن ذكيًا , لكنك كنت شيطانًا , ولترين ما يرى الشياطين ..
ينظر لشبيه الضيف ويقول :
- فلتُصبّ عليه حمم من النار , كلما إنطفأت لحقته غيرها , وفي كل لحظة فليلاحق بصره وعقله ما فعل , وإنه ليتمنين الموت إحتراقًا ولن يموت ..
ينظر سعيد في فزع إلى شبيه الضيف خلفه وقد بدا أنه أفاق من ذهوله لكن الشبيه بيد فولاذية يمسك به , في اللحظة التالية كان يجره جرًا على الأرض ويمسك بقدحٍ من مكان ما يصبه فوق سعيد الذي تصم صرخاته آذانهم , في القطار نظروا لبعضهم البعض , الآن ينقصون فردًا آخر , ولا خلاص , ولا هروب ..
تقول منال :
- كيف أتحمل كل هذا , لماذا لا يغشى علي , لماذا لا أفقد وعيي ..
يقول أمير :
- لن يتركوك , ستفعلين أي شيء لكنك ستظلين واعية , ستظلين تشاهدين , وستمثلين أمامه ..
لم يطل حديثهم فسرعان ما تقدم شبيه آخر للضيف الحارس للباب قائلا :
- فليحضُر الثالث .
يدير الضيف رأسه إلى داخل القطار وينظر لنورا التي تشهق فزعةٍ قبل أن تتحرك مجبرة نحوه بينما يفسح طريقها ليلتقطها شبيهه بيده المخلبية .
يتقدم الشبيه حيث المقعد , ويُجلس نورَا فوقه لتواجه حورس بينما يقف خلفها , يقول موجهًُا صوته للمنصة :
- الثالثة , وإنها لأقلهم رحمة , وأسوأهم تخطيطًا .
يقول حورس :
- فما جريمتها ؟
يشير الضيف بيده بينمَا تختفي صورته وصورة المحاكمة لتحل محلها مشاهدٌ من جريمة نورَا كما يفترض أن تكُون ..
في البدء مشهد لها بعد العمل مع مجموعة من الرجال , كانت خارجة من مشفى عبد الظاهر لتستقل سيارتهم , تدور السيارة وتتقدم المشاهد للتوقف السيارة بالقرب من طفلٍ في العاشرة تقريبًا يمشي وحيدًا في أحد الشوارع الواسعة , يبدُو أنه خرج ليبتاع شيئًا لنفسه , تهبط نورَا من السيارة التي تتوقف أمام الطفل , تتأكد من عدم وجود مارةً وأنه لا أحد يراها , تهبط وتضع منديلا على أنف الطفل الذي يسقط على الفور لتحمله في صعوبة والسيارة تتوقف بجوارها وتصعد ..
تقول لأحد الرجلين داخلها :
- لن أفعل هذا ثانيةً وإلا فما دوركما إذن ..
يقول السائق :
- أنت أفضلنا وأقلنا إثارة للتساؤلات , كما أن أي نقطة تفتيش لن تشك لربما اعتقدت أنه ابنك أو أخاك الصغير ..
تقول نورا شيئًا ما ولكن المشهد ينتقل لموقف آخر , ترصد طفلة مع والدتها التي تبدو أنيقة الثياب منشغلة بنفسها تهبط إلى أحد المولات , صحيح أن كاميرات المراقبة منشغلة ولكنها تعرف ضحيتها جيدًا وقد اشارت للرجال بهذه المراة فوافقوها , بعد دقائق كانت الطفلة مخدرة بين يديها في الخلف بينما السيارة تنطلق لصيدٍ جديد ..
في القطار يسأل أمير باهر :
- هل كنت تعرف ؟
لا يجيبه باهر وقد بدا أن فزعه يزداد وهو يرى ما فعلته نورَا , أما أمير فكان يفكر أن نورا ايضًا لم تكن ملاكًا ومن الواضح أن قتل باهر لم يكن جريمتها , بل لم يكن جريمةً من الأساس , لقد كانت تخطف الأطفال وتخدرهم وما خفي كان أعظم , تدور الأفكار في راسه بينما عيناه تراقبان ما يحدث وعقله يأبى الاستسلام والتسليم بأنه بعد وقت قليل سيكون جالسًا على المقعد يستعرض حياته دون إفلات من العذاب .
صورة عبد الظاهر الذي ستفقأ عينه كل ساعة مرعبة , صورة سعيد الذي يستحم بالحمم كلما خفت النار عن جسده كابوسية , ولا يعلم أي مصير ينتظر نورَا الجالسة على مقعدها الآن ..
ينظر إلى الضيف فيجده منتبهًا بالكامل للمشهد بالخارج , هل هي فرصة مناسبة للفرار ؟ ولكن إلى أين سيفر ؟ وكيف سيتجاوزه أو يقصيه عن طريقه وهل إصابته وإبعاده ممكنين ؟
ينظر إلى الضيف فيجده منتبهًا بالكامل للمشهد بالخارج , هل هي فرصة مناسبة للفرار ؟ ولكن إلى أين سيفر ؟ وكيف سيتجاوزه أو يقصيه عن طريقه وهل إصابته وإبعاده ممكنين ؟
فماذا بعد ؟
أبى عقل أمير الإستسلام رغم أن كل الطرق من حوله تقول ذلك , تابع النظر من النافذة ليذهله ما يرى ..
نورا في المشفى تأخذ مالاً من شخص , ثم تدخل غرفة ما وتعبث بأجهزتها وتحقن المحلول الموصول بالمريض بشيء ما , بعد لحظات تتوقف الأجهزة عن العمل , لقد قتلته !
أما المشهد التالي فقد أثار غصبهم جميعًا , هو وباهر ومنال وربما الضيف أم تراه لا يشعر ..
طفلة رضيعة كانت تبكي كثيرًا , لكنها كانت معدة لتتمزق أعضاؤها على أية حال , قتلتها نورا لكن دون رحمة , قامت بتعذيبها قبل القتل وكأنما لن تكتفي به , صفعتها مرارًا وحقنتها مرارًا في وصلة تعذيب امتدت لدقائق وانتهت لإجهادها أم لموت الصغيرة ؟
يقول باهر لأمير :
- كنت أعمل على هذه الجثث لكن لم أتصور أنها تفعل بها هذا ..
ينظر أمير له ويقول :
- وما الفارق , أنتم وحوش في جميع الأحوال !
أما منال فكانت تنقل بصرها بينهما وبين المشاهد أمامها , عاودتها نوبة بكاء , منعها أمير من التمادي فيها بقوله دون أن ينظر لها :
- لربما أجدى قديمًا , الآن لن يفيد بشيء ..
يتابعون النظر لنورا وجرائمهَا ..
ينتقل المشهد لأمها التي لا تقوى على الجلوس , نورَا تقف بجوارها , تساعدها وفي مشهد بليغ سرير الأم التي خرجت روحها وأختاها تبكيان بينما يدور المشهد لها عارية في أحضان باهر تنتشي بجسده .
عندما توالت مشاهد الخطف والاعتداء حتى عاد مشهد نورا جالسةً على المقعد أمام حورس بينما حورس يلقي إليها بحكمه , قال :
- قد تكون الحاجة دافعًا , لكن الظلم للظالمين حق , هناك ما دُفعتِ إليه , وهناك ما سولت به نفسك وإن طاعة النفس في الظلم لمن أسوأ الشرور .
في هذه الأثناء كان عقل أمير يدور في سرعة , ترى هل سيكون القادم ؟ لو جلس على هذا المقعد فقد انتهى , يدور بصره سريعًا في أرجاء القطار , ويقرر ان يحاول محاولة خرقاء وقد انتابه هاجس ضخم أنه سيكون القادم ..
بينما يشاهد الجميع حورس في الخارج وهو يلقي بحكمه على نورا الجالسة كالدجاجة وهي بلا شك تستحق ما سيحدث لها , يقترب أمير من الضيف الذي يقف على الباب , وبكل ما يملك من قوة يثب ويدفعه بقدميه في ظهره بينما حورس يتكلم في الخارج ..
لثوانٍ توقف كل شيء ..
التفت الجميع له , حورس من على منصته بدا أنه يرمقه , المسوخ الواقفة في كل مكان , نورا والشبيه الذي خلفها , رفاقه في القطار , حتى الضيف الذي لم يتزحزح أبدًا التفت له هدوء وهو ينظر له , وعندما بدا لهم أن حورس يضحك , ضحكُوا جميعًا ..
قال الضيف :
- أحمقٌ أنت , ويبدو أنك لا تفهم ..
يسأل حورس :
- هل أتى دوره ؟
يهتف الضيف :
- لربما يجيء قريبًا .
يقول حورس :
- وإنني بهِ لشغوف ..
يعاود النظر لنورا ويقول وهو يكمل حكمه وكأن شيئًا لم يكن :
- فلتُنزع أعضاؤها في كل ثانية ولتنبت من جديد , ولتكونن لحظة من السكينة هي الحياة لها , وقطرة من الماء المغلي هي جنتها ولتشاهد موت أمّها كلما حولت بصرهَا ..
يوميء له شبيه الضيف قبل أن يجذب نورا من ذراعها ويمضي في اللحظة التي يتقدم فيها غيره من الباب ..
أما بالقطار فكان أمير شديد الفزع وإن إرتاح جزء منه , لقد حاول محاولةً على الأقل وأدرك نتيجتها , وما الذي سيختلف عن أسوأ مصير يمكن أن يواجهه ..
الكارثة أن أحدًا لم يأبه لما فعل , أن أحدًا لم يشعُر به ..
يقف شبيه الضيف أمام قرينه على باب القطار ويقُول له :
- فليحضُر الرابع ..
بقوة خفية يجد باهر نفسه مدفوعًا للتقدم حتى يصل للخارج ليتسلمه الشبيه الجديد , ويقوده وسط صيحات المسوخ إلى مقعد الإدانة ..
للتقييم على goodreads
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء