pregnancy

قد صدّقت الرؤيا - قصة قصيرة

قد صدقت الرؤيا
طارق عميرة


عندمَا جاءه هاتفٌ في منامه : ( قد صدّقت الرؤيا ) نهض متذبذبا مفكرا" أي رؤيا " وقرر أن يستبشر .
تلتهب حمَاسة ابراهيم , ويشعر أن وقت صرخته قد حان , النظام صار شديد الحماقة ولم يتعلم من اي شيء يدور حوله , بالأمس واليوم اعتقل عددا من الشباب والمراهقين والاطفال , وفي هذا الوقت العصيب يبدو هذا تصعيدا شديد الاهمية من جانب النظام ..
لقد راقب مع أصدقائه في توجس ارهاصات الثورة التونسية , ثم صار الأمل وتضاعف الرهان عندما انتقلت نيرانها الى مصر ولم تخمد الا برحيل الحاكم وتحقيق مطالب المتظاهرين في يناير الماضي , راقب زملاءه اللذين خانتهم حماستهم فبدأوا الدعوة قبل حتى أن تتم الثورة المصرية , دعوتهم التي فتحت كل أبواب الجحيم ..
لا بأس إنهم يقبلون بهذا ,  فليواجهوا أبواب الجحيم افضل من العيش داخله , وليكن ما يكون ..
أيامٌ على الموعد المقرر والنظام المسعور بدأ يكشر عن أنيابه , اعتقالات وتعذيب واهانة بلا رحمة حتى للاطفال والنساء , القبضة الحديدية جاهزة وهي عملاقة جدا , طبول ليبيا تدق في عنف لكن النظام هنا في سوريا هو الأكثر دمويةً على الإطلاق ..
لا يعرف إبراهيم ما يحدث بالضبط في تونس أو مصر أو ليبيا لكنه يرى الظلم واضحًا كالشمس هنا في سوريا , حيث نيران الثورة ستأكل كل شيء ولن يستطيع أحد اخمادها , حيث التعذيب رفاهية , والاختفاء القسري نزهة , والقتل سريعًا رحمة من الله ..
دعوات النزول في 15 مارس تملأ مواقع الانترنت والمنتديات الرئيسية لكل مكان , وأخيرًا علا الصوت الهامس ليجن جنون النظام حتى يعرف مصدره , وليساهم أكثر في اكمال ذلك المحفل الذي سينصب للحرية بعد ايام ..
الحرية على الابواب , هكذا يشعر مع كل ما يجده من حنق وغضب من معارفه واصدقاءه وزملاءه ومحبيه , لقد مل الجميع وسخطوا من القبضة الامنية الغاشمة الصارمة , من الصمت الذي صدأت اقفاله , هو نفسه كتب مرارًا عن الظلم والقمع و الفساد والتأخر الذي يلتهمه ويلتهم جيله , لكنه ابدا لم ينشر اي شيءٍ يحمل معنى مباشرًا او يقله , لم تحن اللحظة حتى الآن وآن الأوان أن يتغير كل شيء ..
لأيام ينام والغد يشغله كما لم يشغله من قبل , وفي اليوم المشهود انتابته خيبة أمل قوية , تقريبا لم يكن هناك أحد , مظاهرة صغيرة في سوق الحميدية بدمشق , ذلك المكان الذي يحمل عبق القرون احتضن المشاهد الأولى للبلطجية اللذين أحضرهم النظام للقضاء على أول من استيقظ من ضمير هذه الأمة ..
ظلت المناوشات تحدث والمطالب البسيطة هي الافراج عن مجموعة طلاب معتقلين من ابناء اهل درعا , ورفض النظام ان يمنحهم بصيصًا ينتظرونه من الأمل , لتنطلق المظاهرات الحاشدة وليبدأ القتل , في البدء كانوا أربعة فقد كان الامر بضبط النفس قدر الامكان , وهذا النظام يفهم ضبط النفس بطريقة خاطئة , قتل اربعة وسط الحشود كان شرارةً أكبر لتعلو المطالب لاسقاط النظام بدلا من ان يمن على الشعب باقل حقوقه ..
تحولت خيبة الأمل إلى أمل عارم في قلب ابراهيم , في بداية الثورة كان سعيدًا رغم المه وحزنه لكل من يسقط , لكنه سعيد برؤية كل هذه الآلاف تخرج وتطالب بالحق , تعلن سخطها من المهانة و القمع , تعلن رفضها لممارسات نظام غاشم يسحق من بعارضه , لكن الآن بعد ايام عديدة صارت الحرية ابعد والموت يؤلم حقا لانه خسارة , خسارة في الضمير , ونصر عند من لا يقيم وزنا للانسان ولا لحياته , الموت مؤلم , مؤلم أن يستهدف الموت أحدا لأنه يحمل نفس أفكارك , يستهدفه بلا ذنب , يستهدفه لان الحاكم دموي قد يسيل كل دماء الناس في مقابل كرسيّه ..
بخلاف بعض الجعجعات المجتمع الدولي يغض الطرف ويبطيء التصرف ويبدو أنه سيأخذ قرارًا ما لا أهمية له بعد ابادة نصف السوريين , هكذا بدأ ابراهيم الحديث , هكذا انضم للثورة وصار يدعمها ويحشد من أجلها وتضامنًا معها , هكذا علم أن كثيرين يفعلون مثله , هكذا وجدهم يقفون بجواره في التظاهرات ..
في كل ليلة ينام فيها يسمع ذلك الهاتف دون مقدمات ( يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ) ينهض ويسطع النور في داخله , وأي رؤيا سوى الحرية , أبشر يا ابراهيم ..
يحاول أن يخط أفكارًا عديدة لكنه يفشل في ذلك , ينهض ويقرر النزول للشارع وهو يدعو الله أن لا يلتقي بقطعان الذئاب التي تتجول الآن لتصطاد فرائسها من المتظاهرين السلميين ..
كاد الجنون يصيبه عندما بدأ القتل بالجملة , وفي وسط التظاهرات في حماة يقف ويردد الهتافات مع الناس , نفس الهتافات التي تحتاج الى تجديد , تحتاج لحماسة أكثر , كل هؤلاء الموتى , كل هذا القمع , كل هذا التعذيب , كل هذا القتل ..
يهبط الالهام وتتكون الهتافات في رأسه واحدة واحدة , يتوجه الى الميكروفون الذي ينتقل من الجميع للجميع ليبدأ الهتاف بصوت اقرب الى الغناء , ويردد مئات الالوف خلفه , عشرات الهتافات من ابداع اللحظات ..
(يسقط يسقط هالنظام ويسقط حزب البعثية )
(يا بشار ومانّك منّا.. خود ماهر وارحل عنّا.. شرعيتك سقطت عنا ويلا ارحل يا بشار)
تتجمع آلاف الحناجر خلفه , وجدوا فيه ضالتهم , اللسان الذي يعبر عنهم ويرسل رسائله القوية التي لا يعرف هو صداها ..
يهتف
(يا بشار ويا كذاب.. وتضرب أنت وهالخطاب.. الحريّة صارت عالباب.. ويلا ارحل يا بشار)
في هتاف واحد و بشكل نظامي , وصل الصوت إلى العالم أجمع , تجاوز حدود حماة لتشاهده عيون ملايين المهتمين والراصدين , تردد حتى انتقل من حماة الى كل مكان ..
يهتف
(يا بشار و يا خسيس و دم الشهداء مانو رخيص وضبلي غراضك بالكيس و يلا ارحل يا بشار)
كان يعلم ان وقته قد صار محدودًا , وان النظام سيسكته وان كان هذا آخر ما سيفعله قبل رحيله , كلما ازدادت شهرته كلما علم أن وقته صار أقل , اليوم صار اسم ابراهيم قاشوش شهيرًا جدًا , الآن صار الجميع يعرفونه ولئن كانت له حياة أخرى او كان في دولة أخرى ربما كان سيعيش ليحكي ويتذكر ويخرج في التلفاز ..
يهتف
(ويا بشار ويا مندس تضرب إنت وحزب البعث روح صلح حرف الإس ويا الله إرحل يا بشار )
(يا بشار طز فيك وطز ياللي بحييك والله بقرف طلّع فيك  يالله ارحل يا بشار)
عندما عاد لمنزله في تلك الليلة ورغم ما حققه من قيادة وشهرة الا انه لم يكن سعيدا ابدًا , ان الهم يزداد والغضب يزداد والأمل يقل رغم أن الشعب صار في الشارع بأكمله ..
يشغل التلفاز ويرى متابعة جيدة لتظاهرات اليوم ويتساءل في نفسه عن جدوى ذلك , يغلبه النعاس فينام , لا يعلم كم نام , ولكن حين جاءه الهاتف هذه المرة كان شديد الوضوح , ( يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا ) , لينهض متحفزًا لحظة دخولهم غرفته , لم يسألوا او يتحدثوا فقط انهالوا باللكمات على وجهه قبل ان يضعوا عليه كيسا اسود ويجرونه من ذراعيه , لم ير أحدهم الابتسامة المصبوغة بمذاق الدماء تحت ذلك الكيش الذي يحجب حتى التنفس , الابتسامة التي ارتسمت على وجهه وهو يسمع صوته المنبعث من التلفاز يهتف :
( يابشار ياملعون مفكر علينا بتمون ..دم الشهدا مابنخون و يالله ارحل بشار
 يا بشار ويا دكتور حاجة تلف وحاجة تدور دمك في درعا مهدور ويالله ارحل يا بشـــ )
طراخ
مع تهشيم التلفاز انتبه وابتسم , لم يكن يعلم ان هتافاته سريعة هكذا , ولم يعد يهمه , تنهال كعوب الاسلحة على ساقيه اللتين تقاومان ليسير معتدلا , يضربونه على مفصل الركبة , على الكعب , على الاصابع , حتى في صدره , كلمات السباب والصوت العالي لا تثيره او تغضبه لانها تنهال من كل مكان ..
مع هذا الغل قبل أن يتفوه كلمة واحدة أو يوجهوا اليه سؤالا واحدًا , بدأ يدرك ما فعله بالفعل , أنت غرست مسمارًا في مخ هؤلاء , فلتتحمل جنونهم ..
لساعات طويلة عذبوه , لكنه كان مرتاحًا , قرأ عبارة ذات مرة " أنت إن نطقت مت , وإن صمت مت , فقلها ومت " لا يذكر أين, يتذكرها الآن فيفهم لماذا يشعر بالراحة ,حتى مع تماديهم في آلامه , مع كل صرخة تنطلق منه رغمًا عنه , مع كل صفعة على وجهه يقصدون بها كرامته لكنهم لا يعلمون انها على وجه كرامتهم هم ..
هذا الجالس الاعزل الكسيح العاجز وما زال يغيظهم حتى بوجوده , حتى بحياته ..
يهتف والألم يضرب كل جزء منه :
(يا بشار و يا خسيس  دم الشهدا منو رخيص  انت العن من ابليس ارحل ارحل يا بشار )
ينظر الرجال الغاضبون الى بعضهم البعض وقد جن جنونهم , لقد ضربوه ضربا يقتل الفيل , يتقدم القائد ليمسك برأس ابراهيم وبلا تردد يذبحه ..
لجزء من الثانية وقبل أن تصعد روحه يلمحون ابتسامة روحه المسافرة , ينظر الرجال لوجهه المنحور في غل حقيقي , حنجرته ؟ أليست السبب . أليست الرمز ؟
بذات السكين يقطع احدهم حنجرته من الوريد الى الوريد , ويأمر بقية الرجال برمي الجثة على النهر ليكون عبرة للجميع..
يخرج الرجال بالجثة بينما يتأمل هو يده ويتنفس في ارتياح , الحنجرة التي سببت أشد صداع لهم ترقد في يده الآن ولن يسمح بتكون مثلها مجددا ..
لم يرتح كثيرا ففي اليوم التالي كانت تسجيلات ابراهيم قاشوش تنطلق في كل التظاهرات حول الوطن , لقد صار من المستحيل كتم حنجرة ابراهيم قاشوش لانها تتردد في كل مكان , ولفترة طويلة ستقص مضجعه تلك الهتافات , ربما حتى نهاية حياته , سيصاب بالجنون حتمًا , هو الذي صار يصرع كلم سمع تلك الهتافات , رغم جثة ابراهيم التي القاها رجاله منذ قليل , الا انه شعر بانهزام شديد اثناء عودته تحول الى حسرة وهو يسمع الصوت يأتي من تسجيل في مكان ما , صوت ابراهيم
(و بدنا شيلك يا بشار و بهمتنا القوية.
سوريا بدها حرية
سوريا بدها حرية )



شكرا لتعليقك