طارق عميرة
حين تكون حبيبتك نموذجًا أنثويًا فريدًا
كما تحب أن تكون فلا بد أن اسمها هو ميرفت ..
عليه أن يكتب نظريته العبقريّة تلك حتى لا ينساها
, كثيرًا ما تخيّل أن حبّه لميرفت جعلَ منهُ شاعرًا أفضل من عنترة .
ينظرُ حوله ويتبسم .
لا تُوجد ميرفت الآن , ميرفت في المدينة حيث
يعملُ الجميع في ألمٍ وصمت أو ينزوون في منازلهم .
لا يدري كيف يشعرُ بالإشتياق إليها إلى هذا الحد
وأمامه على البعد يرفرف علمٌ إسرائيلي في موضعٍ ليس له , ولم يعترف يومًا به ,
سيناء .
يذكرُ الوحشة الشديدة التي إكتنفته في أيامه
الأولى هنا , حيثُ كان يجلس بكامل عتاده منتظرًا أي أمر , كان يستشعر خوفًا من
الظلام الحالك ليلاً خاصةً وأن سبل الإتصال بالعالم الخارجي مقطوعة عدا القيادة
العسكرية لكتيبته والأماكن التي تخيّم فيها .
" طيران .. طيران "
يهتفُ بهَا أحد زملاءه فينبطح الجميع أرضًا وهو
من بينهم , الطيران الإسرائيلي إعتاد إختراق الأجواء بسهولة , بعد قليل ستنطلق
صواريخ وسيفوز الباقي على قيد الحياة لينتقل إلى نقطة أخرى وجولة أخرى .
يلامس وجهه الرمال فيتذكر أنه صار جزءًا منها ,
ذرة بشرية عملاقة في صحراءٍ تحولت إلى ميدان للقتال .
يتساءل : هل تعرف ميرفت مذاق حبّات الرمل الصلبة
؟
أزعجه الخاطر وسرّه أنها لن تعرفها إلا وهي تمسح
وجهه الذي إعتاد معانقة حبيبات الرمال الملتهبة.
هل هذهِ يدهَا البيضاء المرمرية التي تداعب وجهه
؟ , هنا في الصحراء والطائرات الإسرائيلية فوق الرؤوس , يسمع صوت إنفجارٍ مدوِ
فيلتفت ناحيتهُ في برود , تساءل لماذا يبدو له صوت الإنفجارات معتادًا كتغريد
العصافير , لا خوف , لا ألم , لا قلق , هذه نزهة وليست حرب ..
بينما تتحسس ميرفت وجنتيه يرفع وجهه من الرمال
وينهض متكئًا عليها ببطء , ينظرُ إلى السماء فيحصي طائرتين , يتحسس خطواته وهو
يتأمل النيران المشتعلة قريبًا منه محاولاً إستنباط أي إصابات , هو ذا مدفعه حيث
تركه , كان يجب عليه ألا يبتعد عنْه .
يحدد هدفه بدقة , ويشق صاروخه السماء مصيبًا هدفه
وصانعًا دائرة من الأشلاء لإحدى الطائرتين , في نفس اللحظة التي إقتنص فيها
صاروخان لزملاءه الطائرة الأخرى .
يلقي مدفعه وينظر حوله , لا يوجد توتر , إذن لا شهداء
هنالك , هكذا جلس في موضعه ينتظر أن يحدث أي شيء آخر .
لم يعد الدم يقلقه , هكذا كتبَ إلى ميرفت , صار
يشعر أنه لم يولد إلا ليموت هنا , هنا حيثُ كل شيء لا يساوي شيئًا , الحياة ذاتها
لا تساوي شيئًا إلا تحديد معنى النصر أو الهزيمة .
ميرفت تمسك كفه بيدها , تعانقه أصابعها فيشعر
بخدر بطيء يتوغل في خلاياه , يستشعر البرودة في لمساتها حتى يكاد يرتجف , يعود إلى
الواقع وهو يعرف أنه لا معنى فيه للدفء .
ماذا ستفعلين يا ميرفت إذا علمتي أنني الآن صمت
خمسة أيام فقط و افطرت البقية , غدًا هو اليوم العاشر , أنا لا أطيق العطش يا
ميرفت , لا أطيقه أبدًا وأنا أدفن جثث زملائي وأضع لها شواهد أكتب نعيها بنفسي ,
أعرفُ تمامًا كما تعرفين أن شهر الصوم لن ينقضي إلا وأنا شاهد بجوار هؤلاء , وإلا
فلماذا أنا هنا ؟
لا أعلم لماذا أنا هنا , جئنا ليموت بعضنا ونقتل
بعضًا منهم , ربما يا ميرفت ستكون الأمور قد تكشفت لكِ حين تصل إليك رسالتي هذه .
إذا وصلتك هذه الرسالة , فستصلك بعد العيد , وإذا
لم أجيء أنا في العيد فربما لا آتي أبدًا.
لستُ حزينًا ولا أشعر بثمن لحياتي , ولكنني كنت
أتمنى لو حدث هذا وهذه الأرض حرة , أنا كما يقول الشعراء أرى مصرعي وأمشي إليه
بخطوات مسرعة , المهم أن يكون لهذا نتيجة.
يضع قلمه ليتأمل رسالته قليلاً قبل أن يمسك به
ليكتب مرةً أخرى :
أتعلمين يا ميرفت أنك معي هنا دائمًا , أجدك
بجواري في كل مكان أذهب إليه , عندما أغمض عيناي لا أرى سواكي , وعندما أفتحهما
تبدد صورتك كل الوحشة والتيه اللذين أشعر بهما وسط هذه المساحات الصفراء الشاسعة .
حين أمسك سلاحي يا ميرفت يدفعني للضغط على زناده
بكل حزم أن يدك تتلمس يدي المتأهبة , أخشى أن تصيب طيفك شظية أو رصاصة , وهذا
يدفعني للموت في سبيل النصر والبقاء حيًا , لم تغيبي عني يومًا يا ميرفت ..
فقط هذا لا يغنيني عن أنني لا أعرف شيئًا عنكِ
الآن , وهو شعور كريه لا شيء أسوأ منه سوى أنه بعد أيام لن نعرف شيئًا على الإطلاق
, لن نكون هنا لنعرف.
أتركك الآن يا ميرفت لأتابع المسير , ربما أواصل
الكتابة لكِ وربما أرسل لكِ هذهِ الرسالة كما هي , وربما لا تُرسل , فكما قلت لك ..
أشعر بك هنا معي دائمًا
أشعر بك هنا معي دائمًا
يبدأ السير هو ورفاقه , يسيرون طويلاً حتى ينامون
, ساعات قليلة بعدهَا طلع النهار فتابعوا المسير ..
لم يصدق ما يسمعه وهو يسمع الأمر بالعبور , عبور
خط بارليف السد الأسطوري المنيع , ولكن الأمر كان واضحًا , هكذا يكون للموت فائدة ..
يسير وسط الماء و هو يسمع صوت موجههم :
عدّوا , زي ما وديتكم هجيبكم تاني .. عدي
يعبر بينما ميرفت تحلق فوق رأسه طائرة , هل
زملائه محظوظون مثله أم أن آلامهم أخرى ومشاكلهم أخرى ..
يفكر أنهم يقاتلون مثله وأفضل , يحاربون أبرع منه
وهم أكثر منه خبرة , يرى الطائرات المصرية المقاتلة تحلق من فوق رأسه بإتجاه
معسكرات الأعداء فيسمع صوت تكبير مدوّ .
صوت القصف يدوي بينما حرارة السماء آخذة في
الإرتفاع مع النيران التي تم ضخها فيها , الأعداء قادمون بدبابات كاملة , يخرج
سلاحه الأرباجيه ويصوّب .
هيا يا ميرفت حاربي معي – إصابة جيدة يا ميرفت
هكذا يتحرك في سرعة بعد أن تفرق عن زملاءه وتفرق
كل منهم , ينتقل من مكان لآخر وهو يطلق قذائفه ومعه زميل واحد , وميرفت تحوم حوله
وتسيطر على تفكيره , يوقف دبابة أخرى وهو يجزم بموت من بداخلها من عنف الإنفجار ,
قذيفة تنطلق نحوه فيتفاداها ليشعر بشظية عنيفة تصيب ظهره , يلتفت إلى زميله في فزع
فيجده قد تحول إلى أشلاء بينما ذخيرته قد انفجرت وتشتتت .
يسقط أرضًا وهو يقاوم ولكنه يكتشف أنه غير قادر
على الحركة رغم أنه لا يشعر بألم ممض , يخيّل إليه أن ميرفت ترقده على فخذيها ,
تمسح وجهه الغارق في العرق وخيط الدماء السائل من فمه , ترفع يدها إلى وجهه وتسبل
عينيه , ثم لا يشعر بأي شيء .
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء