pregnancy

ما فوق الحب - قصة

ما فوق الحب
من قصص المجموعة ناثر البخور الصادرة معرض كتاب 2009 بالقاهرة
طارق عميرة


النجوم تتلألأ في السماء وتبدو رائعة بأنوارها المشعة , الشعاع القادم من هذا النجم يتعامد على القادم من ذاك فيصنعان شبكة نورانية رائعة في قلب السماء , لا بداية لها ولا نهاية , كأن بدايتها العدم ونهايتها مرمى البصر .. البحر ثائر الأمواج , لون مياهه مصطبغ بلون السماء, ذراته تتناثر عندما تصطدم برمال الشاطئ التي لا يتبين لونها في هذا الوقت فتصيب الرمال بالبلل حتى بعدٍ معيّن , والظلام يخيم على داخله فلا تُرى إلا الموجات القريبة من الشاطئ بما يعلوها من رغوة بيضاء تكاد تكون مظلمة هي الأخرى.

الهواء مبتل منعش , هواء نقى يخيّل إليك أنه قادمٌ من العدم , يدخل إلى صدرك فتشعر بنشوة لا تجاريها نشوة أخرى, نشوة طبيعية تجعل عقلك يحلق في سماء الفكر , تأمل بذهن صاف لا يتوافر إلا في مكان كهذا ووقت كهذا.

تجلس هي على حافة الرمال , تترك المياه لتعبث بقدميها وأحيانًا تأتى موجة عالية فتتجاوزها عندما ترتطم بالشاطئ , تترك الرذاذ يتناثر على وجهها فتشعر بلذة تحبها , الهواء البارد المغلف ببرودة المياه يحيط بها ويمنحها قشعريرة لذيذة بين كل فينة وأخرى.
تجلس ساهمة تتأمل , تارة تذوب في سحر المكان , وتارة تذوب في أحلامها , وتارة تتحرر روحها وتجوب عوالم اللامكان ولا تشعر بزمن بطبيعة الحال, تتنهد بآهة حارة كلما أفاقت من أحد تأملاتها , لماذا انتهى التأمل , لماذا يصر جزء منها على الارتباط بالواقع دائمًا ؟ , ولكنه لا تجد الواقع سيئًا إلى هذا الحد لأنه يكون هو ذاته جزء من التأمل
-         كنت أعرف أنني سأجدك هنا ..

في البداية خيّل إليها أنها سمعت صوته , حولّت رأسها ببطء إلى مصدر الصوت , كان هو , يقف مرتديًا حلته السوداء الأنيقة , لا يبالى بالمياه التي تتناثر عليها , يتطلع إلى عينيها الواسعتين ووجهها الفاتن , تنظر إليه غير مصدقة , دمعتان تنحدران على خديها رغمًا عنها , نسيت كل ما يحيط بها , البحر رغم رذاذه الذي ما زال يتناثر عليها , النجوم رغم بريقها الذي أضاء وجهه , الهواء رغم نقاءه الذي تشعر به في رئتيها , كل ما ملأ عينيها وقلبها وعقلها في هذه اللحظة وجهه ..
- هل عدت حقًا..
تقولها وهى تنتحب , يقترب منها ويجلس بجوارها , رؤيتها تنتحب تمزق داخله , يضمها إلى صدره , ويترك يده تجوس في خصلات شعرها , بينما تستسلم هي له تمامًا , لقد تركها من ستة أشهر , ستة أشهر لم تعرف الهناء بهم , لم تعرف الراحة , كل يوم تأتى إلى هنا وتتذكره , تسرح في ذكرياتهما الحقيقية , وفى أحلامها المختلقة الجميلة , ستة أشهر كاملة ,مروا عليها وهى على هذا الحال , تستعيض بهواء المكان الذي التقته فيه أول مرة عن تنفسه , وبالعالم المحيط بها عن أحضانه , كان يعرض لوحاته فى النصف الآخر من العالم , روح الفنان داخله أصرت على أن يرى العالم فنه , وأن يرى لمساتهم , قال :-
- نعم , عدت حقًا !..
- أنت أم روح الفنان داخلك ..
هو يفرق بين شخصه وروح الفنان داخله , ولكنه يعرف شيئًا واحدًا , أن شخصه وروح الفنان , كلاهما بحاجة إليها , هو يعود ليستوحي منها لوحاته , ليحصل له الإلهام الذي يبدع به في أعماله , ليحيا معها قليلاً وينقل مشاهد حياته الحالمة على لوحاته الساحرة , لوحاته التي جابت العالم الآن وعرّفت المجتمعات به كحالم جديد في لوحاته ..
- بل أنا .. روح الفنان داخلي بحاجة دائمة إليك , ولكن حاجة قلبي إليك أكثر ..
تطلعت إليه لحظات محاولة معرفة إذا ما كان صادقًا أم انه يقول هذا ليرضيها , لم تصدق نفسها وهى تسمعه يقول :-
- وقد عدت من أجلك .. من أجلك فقط .. وسأبقى هذه المرة معك للأبد
- ألن تسافر مرة أخرى ؟
- بالتأكيد سأفعل , ولكن ستكونين بين يدي دائمًا , لن أذهب وحدي ثانية !
لم تشعر بنفسها إلا وهى تعانقه في حرارة , عادت دموعها أكثر وازداد نحيبها , ولكنه هنا هذه المرة , دفنت رأسها في صدره فأحس بعبراتها تخترقه , ضمها إليه في حنان وقوّة , شرد ببصره في المشهد أمامه , تذكر لقاءهما الأول , كيف سعى كثيرًا للتحدث إليها , حين علم أنها تبادله شعوره , يوم زفافهما , معرضه الأول الذي لم يبع لوحة واحدة , معارضه التالية التي حققت نجاحًا ساحقًا , كونه الآن رسّام فني شهير , اشتياقه لها وهو في بلاد الغرب , وجودها الآن في حضنه, نظر إليها فوجدها تحدق بعينيه , ابتسم وبادلها النظرة , وذابا في ليلة رائعة.

***

- أين أنا ؟-
لحظات وسأعرف مكانك..
تدور حول نفسها بضعة دورات , تحاول أن تخمن مكانه , هل هو وراء شجرة التوت العملاقة ؟ , هل يجلس على أحد الكراسي العريضة بالحديقة ؟ هل هو جالس على الحشائش على الأرضية ويداعبها كالعادة ؟ كيف ستعرف مكانه , قررت أن تسير بأي اتجاه , فإذا ما كانت ستصطدم بشيء فسيسارع نحوها لينزع الرباط عن عينيها أو ليمنعها من الاصطدام عندها ستعرف مكانه !

تكاد تصطدم بأحد الكراسي بالفعل , يسارع نحوها ويمنعها من الارتطام به , تمسك به , فيفهم اللعبة , ويضحكان سويًا ..

يجلسان على الحشائش القصيرة , يضمها إلى صدره غير مبالٍ بالجالسين حوله , يعيشان لحظات من السعادة , يتهامسان بكلمات الحب , يمر بجوارهما بائع للزهور , يشترى منه عقدًا ويلبسه لها , يشاهد سعادتها الطفولية التي بلغت حدّها الأقصى بهذا العقد , يمر بائع الآيس كريم , يبتاع منه قطعتان بدون بسكويت , قطعة له وقطعة لها , ويتبادلان التهام القطعتين , يجدها قد شردت فجأة
- أين ذهب القمر
..تنظر إليه في حزن تألق في عينيها بغتة وقالت :-
- هل تظن أن سعادتنا هذه ستدوم ؟
- ولم لا , أنا هنا وأنت هنا , ولن أتركك مجددًا , فلماذا لا تدوم ؟ لا أعتقد أننا سنملُّ الأماكن والمشاعر , كلاهما تزداد روعته يومًا بعد يومًا ..
- اخشي أن تتوقف عندكَ يومًا ما !
- حينها سأكون أكبر أحمق بهذا العالم , سأكون قد تخليت عن ذاتي , عن أميرتي , عن أغلى شيء في وجودي , ولا أعتقد أن هذا سيحدث أبدًا !
- لا تعتقد ؟
- بل أثق !!
من جديد يلفهما الصمت قليلاً , تشعر بأنه يحتويها وأنها بدونه لن تحيا مطلقًا , حتى أثناء ابتعاده كانت تحلم به دائمًا في يقظتها ومنامها , تتمنى لو يعود اليوم قبل الغد , وقد عاد قبل موعد عودته بشهرين كاملين لهذا لم تصدّق
- أين أنا ؟
- لحظات وسأعرف مكانك
دوره هو هذه المرة , الغمامة تحيط ببصره فتحيل النهار إلى ليلٍ قاتم لا يضيئه سوى صوتها , ولكنه يعرف مكان اختباءها , هي لم تغيره أبدًا طوال لعبهما هذه اللعبة من قبل , بخطوات ثابتة يتجه نحو الزهور التي تزين وسط المكان , ويتحسس ما حولها حتى يجد جسدًا فيمسك به
-         توقعت ذلك .. خدعتك هذه المرة !

يأتي صوتها من خلفه , يا للكارثة جسد من الذي أمسكه إذن , يرفع الغمامة بإحدى يديه عن عينيه , ويحمد الله أن من يمسك به طفل صغير وإلا كان سيجد نفسه في مأزق كبير وهو يحاول تبرير كيف كان يبحث عن حبيبته وهو فاقد البصر , عندما أمسك شخصًا ناضجًا
يلتفت إليها فيشعر بانقباضة قصيرة في صدره ,إنها تهوى في حفرة صناعية بالحديقة , يبدو أن العمال لم يتنبهوا إليها , يسارع إليها ويجذبها من الأسفل , يخرجها ويوقفها , يجدها تترنح أمامه , يسارع بالتقاطها بين ذراعيه , يجد حمرة وجنتيها تبهت وضياء وجهها آخذ في الزوال شيئًا فشيئًا , يحدثها فلا تجيب , يخرج هاتفه المحمول ويطلب سيارة إسعاف على وجه السرعة , يحملها غير آبه للنظرات من حوله فقد طغى جزعه على كل شيء , يصل بها إلى باب الحديقة ليجد السيارة قد وصلت , يضعها بداخلها ويتنهد بمرارة , يجلس بجوار جسدها المسجى على سرير الإسعاف النقال أمامه , وتدوي في ذهنه عبارتها .. هل ستدوم سعادتنا هذه ؟

***

تفيق على سرير ابيض , تجد نفسها في حجرة بيضاء الجدران والأرض والسقف , وكل شيء فيها ابيض , حتى رداء الأشخاص حولها , مجموعة من الممرضات وطبيب يقف على رأسها , اللون الوحيد الدخيل على اللون الأبيض , هو لون ثيابه , كان يجلس على فراشها , يحتضن كفها بكفه , يرتدى بذلته التي لم تعد أنيقة بعد معاناته في حملها ونقلها إلى السيارة , وبعد كل ما فعله من تصرفات لا يعيها وهو يحاول أن يطمئن عليها تتطلع إليه طويلاً وتشيح بوجهها وتسأله السؤال الأول :-
- ما مدى إصابتي ..
- ستكونين بخير بإذن الله !
حاول أن يبدو صادقًا ولكنها عرفت أنه يكذب , هي تعرفه حين يكذب لأنه لا يكذب كثيرًا, لهذا لا يتقن الكذب , هو غير صادق , معنى هذا أنها لن تكون بخير , أو على الأقل لن تعود كالسابق , تحاول النهوض من فراشها فيقول :-
- ليس الآن يا حبيبتي , الطبيب قال أن أمامك بعض الوقت حتى تستطيعين السير مرة أخرى !
- هكذا إذن ؟ , وكم هو بعض الوقت هذا ؟
يتطلع إليها في صمت , معنى كلمتها وحدتها أنها فطنت إلى كذبه , موقف صعب بشع , هو لم يفق من صدمته إلا منذ دقائق و لا يعرف ماذا يقول , لذا فقد صمت , صمت تمامًا , بينما تمالكت هي نفسها وقالت :-
- حسنًا أريد العودة إلى منزلنا .
- الطبيب قال أنه لن يمكنك ذلك قبل ثلاثة أيام على الأقل
- ولكنني أريد العودة !

هو لم يرفض لها رغبة كانت بيده قبل هذا , ولكنه الآن يخشى على صحتها , لا بد أن تظل هنا ولكن انفعالاتها وعدم ارتياحها هنا أخطر من وجودها , يتأمل الجلباب الأبيض الذي البسوه إياها , يتأمل تعابير وجهها المنزعجة الصامدة والتي يعرف أنها تخفى خلفها جبلاً من الأوجاع , يشير بيده إلى الطبيب :-
- لتخرجها من هنا إذن ..
- حسنًا .. وقع هنا لنخلى مسئوليتنا من الأمر ..
-سأنقلها في سيارة إسعاف وتحت إشراف طاقم من الأطباء حتى تستقر فى سريرنا
- حسنًا

ينقلها طاقم التمريض بسريرها إلى سيارة الإسعاف في الأسفل , وبمجرد دخولها إليها ينسحب طاقم التمريض الداخلي ويأتي الخارجي , تشتعل أضواء الإسعاف المميزة , وتنطلق السيارة بعد أن يغلق بابها الخلفي عليه وعليها وطبيب وممرضتين , بعد دقائق قليلة كانت السيارة تستقر أمام المنزل , وهبط الطاقم منها , عاون السائق الزوج في رفع سرير الإسعاف النقال إلى الأعلى , أعطى الزوج مفاتيحه للطبيب ليسبقه ويقوم بفتح الأبواب , وأخيرا استقرت الزوجة في فراشها , واطمئن الطبيب عليها قبل أن ينصرف مع الطاقم
-         هل سأعيش ؟

فاجأته عبارتها , كما فاجأه أن تكون هذه أول عبارة تقولها بعد أن صارا وحدهما , هو يفهم هذا الشعور جيدًا , هي عاجزة إذن فهو لن ينظر لها وسيبدأ في الابتعاد , أو سيبحث عن أخرى يقضى أيامه معها ويستطيع الإنجاب منها .

- لم تصل الأمور إلى هذا الحد من السوء .., ستعيشين , وسأكون لك , ولن أكون لسواكِ , قلتها مرارًا وها قد جاء وقت الثقة .
تتساقط دمعاتها رغمًا عنها , تسأله:-
- ما حدود إصابتي إذن ؟
يصمت قليلاً ويجيب وقبضة باردة تعتصر قلبه :-
-         لن تستطيعي السير مرةً أخرى!

***

أيام من البكاء مضت عليهما , ترك هو العمل فيها , وجلس بجوارها ليلبى لها كافة احتياجاتها الحيوية والمعنوية , أيام كاملة زادت صحتها تدهورًا فيها على المستوى النفسي , لم تكن تأكل إلا لمامًا وما يكفي لبقاء شخص عادى على قيد الحياة , ولكنها كانت مريضة لهذا لم يكن طعامها كافيًا لصحتها الجسدية , وازدادت حالتها سوءًا عندما عرفت أنها لن تستطيع الخروج من المنزل , لن تستطيع السفر عبر المحافظات لزيارة والدتها التي لم تعلم عن الحادث شيئًا بعد.

لن تستطيع زيارة صديقاتها مرةً أخرى ستنتظر زياراتهم حين يتصدقون بها ولن تعود علاقتهم بها كسابق عهدها بعد إصابتها , ستكون زيارات من نوع تأدية الواجب فقط , سيغلب عليها طابع الحزن , لن تخرج للتسوق مرةً أخرى , يكفى أنها لا تستطيع الذهاب لحمام المنزل دون الاعتماد على مقعدها المتحرك !!

ولكن الغرابة في الأمر هو ما يحدث مع زوجها , يخيّل غليها أنه يزداد حبًا لها , حزين كأن المصاب هو وليست هي , لم يتخل عنها لحظة واحده , يجالسها نهارًا وينام معها ويستيقظ قبلها لينتظر استيقاظها, يعد لها الطعام ويغسل لها الملابس , لقد صار زوجها في أيام امرأة بيت قديرة من اجلها , لم تتخيل أنه يمكن أن يحبها هكذا ..

غير أنه لاحظ تزايد سوء حالتها النفسية , كانا يتحدثان ويعرف الأسباب التي تقولها والتي لا تقولها أيضًا , لهذا فقد برزت في رأسه فكرة متهورة , لم تكد تسيطر على عقله حتى انتوى تنفيذها , ربما تذهلها الفكرة , ولكنها ستعجب بها , وكيف لا وهى لإسعادها فقط ..
في اليوم التالي استيقظت ..حاولت ضبط نفسها واستندت على قائم الفراش , تطلعت إلى زوجها بجوارها , هذه هي المرة الأولى التي تستيقظ فتجده نائمًا وبعمق أيضًا , يبدو أنه كان مرهقًا للغاية بالأمس ولكن ما سبب إرهاقه , ضوء النهار يملأ الغرفة , في البداية خيّل إليها أنها ترى ما تراه , فركت عينيها وعادت لتتأكد لتجده حقيقة , لم يكن وهمًا , جدران الغرفة لم تعد بلونها الأبيض المضيء المميز , كانت تزدان بمختلف الألوان والإشكال , الحائط المقابل أمامها , كانت هي مرسومة بدقة كأنها حية , تجلس مع صديقاتها , ذات الوجوه , كأنها حية تكاد تتحدث إليها , المقاعد , الجدار في الخلف , صورته المعلقة في إطار كبير أنيق , لوحة المركب الشراعي الذي يقاوم الرياح والمياه ملصقة بجواره , التلفاز مشتعل ويعرض صورة بالأبيض والأسود لأحد أفلام سعاد حسنى التي تحبها , كل شيء مرسوم بدقة تامة , زوجها موهوب حقًا , كل شيء مرسوم من أجلها, زوجها يعشقها حقًا .
حين استيقظ هو وجدها تبكى على فراشها , تبكى كما لم يرها تبكِ من قبل , عرف أنها تبكى تأثرًا , لم تستطع الحديث , كانت تشير إلى الرسوم عندما يسألها وتعود للبكاء , أخيرًا استطاعت الحديث :-
-         هذا من أجلى ؟

يبتسم في حنان , لا يعرف كيف يجيب , هو استغل موهبته لإسعادها , هذا كل شيء , أيقول أنه من اجلها ؟, سيشعر أنه يبتذل نفسه , أيقول انه ليس من أجلها ؟ إذن فقد رسمهم من أجل متولي
-         نعم !

تتطلع إليه في انبهار , تحاول الاقتراب منه رغم الألم في ساقيها وتقبله في جبينه , في هذا اليوم تغيرت الأوضاع ., أكلت كما لم تأكل من قبل , تغيرت حالتها النفسية تمامًا, شعرت أنها تمتلك العالم كله بوجوده ..

في الصباح التالي استيقظت , وجدته نائمًا مرةً أخرى , ضوء النهار ينير الحجرة , آثرت أن تطلع إلى رسوماته من اجلها قليلاً حتى يستيقظ , وفى هذه المرة كانت دهشتها أعظم , الجدار المواجه لها , يحوى صورة صالة منزل والديها , هي تجلس مع والدتها , تثرثر معها وأمامها ذات الطاولة التي تستقر فوقها بونبونيرة الشيكولاته بذات التصميم , كل التفاصيل مرسومة بدقة مدهشه , صورة والدها المتوفى في الخلف ينظر إليهما في رضا , النافذة تطل على المنزل المجاور لهما الذي رُسم بتفاصيله الدقيقة هو الآخر , و:انه نقل المنزل أمامها , ولكن هذه الكرة كان هناك جديد , الحائط الأيمن بالكامل رسمت عليه الحديقة , ورسمت هي وهى تلبس الغمامة وتبحث عنه , كانت تتمنى أن ترى نفسها وهى تفعل ذلك , وها هي تشاهدها وكأنها حية , الناس من حولهم كما هم , حارس الحديقة هو نفسه بذات التفاصيل , وكأنها صورة مطبوعة وليست مجرد رسمه , ما يميزها شيء واحد , عدم وجوده هو

على الأيسر صورة لمكان تعشقه رأته في التلفاز مرارًا وتمنت زيارته , هو أحضره لها هنا , الماء في النهر يبدو حقيقيًا , توشك الأوراق أن تسقط من الأشجار المرسومة على جانبيه , سيارة مارة من طريق ممهد أمام المشهد وتكسو الأتربة أسفل جانبيها , إنها تزور المكان فعلاً ,لو لم يكن بجوارها في هذه اللحظة لأحست بأنها كانت نائمة في الشارع , يراها الجميع ..

الفرح يطغى على صدرها , تشعر بشيء ما يخزها في قلبها , ستموت وتريحه من هذا التعب الذي يجنيه من أجلها , هي لا تصدق ما يفعله من اجلها , لقد بدأت أنفاسها في التباطؤ , تشهق شهقتها الأخيرة , وتعود نائمة كما كانت ..

***
استيقظ هو , وعندما وجدها نائمة في الوضع الذي ماتت عليه أدرك الموقف , صدرها لا يعلو ويهبط , قام من الفراش وقبضة ثقيلة تهوى على رأسه و يدان عملاقتان تعتصران قلبه , تنازل فرشات وألوانه وشرع في رسم مشهدهما الأخير , رسم المقابر , الصندوق الخشبي الذي ستحمل فيه إليه , وجودها هناك وهى ظاهرة وقد غطاها القماش الأبيض , أخذ في الرسم , النباتات الشوكية حول المقابر , وجوه الواقفين , الرجال الذين يرتدون بذلات أنيقة من اجله , إخوتها والحزن يخيم على ملامحهم وأخوها الضابط يرتدى نظارة سوداء كبيرة تخفى انفعالاته , جيرانهم , بعض الوجوه التي قد تحضر جنازتها , السماء من فوقها , الأتربة المغبرة والحجارة من الأسفل , انتهى الرسم أخيرا , تأمله وقلبه يوشك على الانهيار قبل أن يرفع فرشاته أخيرا و يغمسها في لون أحمر هو اقرب إلى الطبيعي وسارع برسم وردة حمراء تعلو القماش الأبيض .

انتهى أخيرًا فألقى بفرشاته وألوانه , واتجه إلى الفراش ورقد بجوارها , نظر إليها نظرة عميقة والدموع تنسال على خديه , ثم نظر إلى الحائط نظرته الأخيرة

- تمت -



شكرا لتعليقك