pregnancy

محلة مرحوم - الثانية - رواية


2

طارق عميرة

لم تعرف سنَاء متى تحولّت ..

تذكر أنها في فترة ما ربما من أعوام كانت طالبة متفوقة في كلية التجارة , قبل أن تنقطع علاقاتها بكل ما درسته وتكتفي بحساب تدابير المنزل ومراعاتها .

الآن هي منحنية منهمكة في تزيين الشريط الحريري الذي تعلقه أمامها في المنزل , عليها أن تنهي هذه القطعة وتبدأ بالقطعة الأخرى قبل أن يعود طلعت ليشغلها بطلباته , تأخذ قطعة من الكريستال اللامع المعقود بخيط يمرمن منتصفه وتشبكها في متصف المتر السابع والثلاثين من القطعة التي يبلغ طولها خمسون مترًا تقريبًا..

متى بدأ كل شيء , لا تذكر , تذكر تخرجها , حصولها على عمل لفترة وجيزة قبل أن تجد طلعت في صالون بيتها بعد أن طاردها مرارًا في الشارع , كانت أقرب للموافقة عليه رغم أنه يحمل الدبلوم لأنها وجدت أنها معجبة بمطارداته , تميل له ..

لم يمض عام حتى كانَت حياتها قد اختلفت تمامًا , رغم تنازلها عن مميزات كثيرة في حياتها السابقة لكن طلعت لم يحاول لحظة واحدة تضييق هذه الفجوة , تذكر في وقت لم يكن قد مر عام بعد على زواجهما وكانت ديونه لها بلغت عشرات الآلاف .. 

لم تكن ملكها جميعًا , اقترضت من والدها , اقترضت من والدتها , بل اقترضت من صديقتها ذات مرة .

مع الوقت أغلقت كل هذه الأبواب ولم تعد قادرة على استدانة جنيه من أجله وهو الذي لا يحاول فعل شيء لتسديد جنيه واحد عنه .

هل كانت في مرحلةٍ ما تحمل كتبًا وتسير إلى الجامعة وتثبت تفوقًا , لم تعد قادرة على إثبات ان هذا قد حدث , لشد ما تحولت الحياة واختلفت حتى عما كانت تتوقعه وتتمناه , رغم كل شيء طلعت طيب القلب حقًا , طريقته العنيفة وأسلوبه المريض في الكلام يضايقانها ولكنها اعتادت ذلك , ما زالت حتى اللحظة تأمل أن يعود يومًا لوعيه وإنسانيته , كثيرًا ما تراه رقيقًا حين يداعب طفلهما السيد الذي سماه على اسم والده وصديقه , تلك المشاهد هي ما يبقيها متماسكة حتى الآن ..

فكرت في الطلاق مرارًا كان هذا قبل مجيء السيّد , وإن كانت تفكر في مستقبل هذا الطفل وتتساءل لو أن طلعت يفكر مثلها , ولكن حياته تنبئها بالعكس , أحيانًا أخرى حين يضربها او يعنفها بشدة أو يقول ألفاظا بذيئة اعتادت سماعها منه لم تكن تعرفها من قبل , عندها تفكر أن عودتها لحياتها وبيتها حل سحري مناسب , صحيح أن المجتمع المريض هنا يعامل المطلقة كالعاهرَة- إلا القلائل - لكنها لا تابه لهذا طالما تعلم أنها صائبة بما تقرره , رغم هذا لم تجرؤ على طلب هذا قط , أحيانا كثيرة كانت تكتفي بالتلميح وكان طلعت يصمت أحيانًا ويصرخ احيانًا أخرى بأنها لا تملكه حتى تقرر متى تتخلى عنه ..

في أي شيء يعمل طلعت لا تعلم , احيانا يعمل بالحرير صناعة القرية الأولى والتي تتميز بها عالميًا وأحيانًا يعمل أي شيء آخر , هي تلتزم مع صاحب أحد المصانع بتزيين شرائطه مقابل راتب أسبوعي عن ما تنهيه من قطع , بدأت هذا عندما بدأت الضوائق , وعندما بدأت صارت تعتمد عليه , ما يقتلها غيظًا ان طلعت صار يعتمد عليه أحيانًا .

عرفت أن العمل هو منقذها وهي تلد السيد الذي لم يبلغ عامه الثاني بعد و إن تم فطامه منذ أيام , تكلفت عملية الولادة مبلغًا كبيرًا كانت لتستدينه لو لم تكن تتدخر , طلعت في ذلك اليوم لم يرهقها بطلب أي مال بل وجدت معه أربعمائة جنيهًا لا تعلم كيف تحصل عليهم لكن لأول مرة تراه ينفق هذا المبلغ في شيء غير المخدرات حتى وإن كانت ولادة طفله , سرها هذا كثيرًا رغم انها دفعت ضعف هذا المبلغ , سرها لأن والديها كانا حاضرين وهي من المرات القليلة التي شعرا أن لطلعت فيها فائدة وإن كانت لا تذكر .

انتهت قطعة الحرير ذات اللون البنفسجي وقد ازدانت بالكريستالات على امتداد طولها , نهضت لتزيح ما أنهته وتجلب القطعة الأخيرة وتبدا في العمل .

لم تصل للمتر العاشر حين وجدت الطرقات الصاخبة على الباب , نهضت في فزع وهي تصرخ :

- مين اللي بيخبط ايه , في ايه ..

تابعت صراخها مع فتحها للباب لتجد صبيًا على اعتاب المراهقة :

- بالراحة شوية في ايه مش كدة , في عيل نايم .

قال لها بشير السوء بصوت حاول تخشينه دون أن يعير صراخها اهتماما :

- عم طلعت اتمسك , لسه البوكس مركبه حالا من عالقهوة من عالعلواية .

للحظات ألجمت المفاجأة والصدمة لسانها وهي لا تعرف بم تسأل او تجيب ..

هذا ما كان ينقصها الآن بالفعل 

***

في شرفة مكتبه التي تطل على المحطة وقف إسلام ينظر إلى المارّة وهو ينفث دخان سيجارته في الهواء ليمتزج بالغازات الخارجة من عوادم السيارات المارة , على البعد تلوح مجموعة من عربات التوكتوك المتراصة بجوار بعضها تنتظر من يأتي للركوب وينهمك بعض السائقين في مسح عرباتهم . 

في المقابل تقف السيارات الميكروباص التي تحمل الركاب إلى المعرض ومؤخرًا إلى محطة القطار بمدينة طنطا الملاصقة للقرية ..

رغم اختلاف السيارات والأشخاص إلا ان إسلام يخيل له أنه يحفظ هذا المشهد , بمطعم الجامعة والصيدلية الملاصقة به يقابلها المدرسة الاعدادية بنين لمحلة مرحوم , بعد هذا المحلات المختلفة المضاءة على جانبي الطريق , تجعله الخلفية كمن يرى مشهدًا ثابتًا كل يوم لا يغيره سوى حدث من آن لآخر أو مشاجرة بالاسلحة البيضاء أو النارية كل عدة ساعات !

في كثير من المشاجرات يكون هو المستفيد الأول إذا ما كانت لافتته مضاءة , حين يأتي له أحدهم غارقًا في الدماء ليوكله لعمل محضر ورفع قضية , وإن كان أغلب عمله إداري ويعتمد بشكل رئيسي على كتابة العقُود و السمسرة في الأراضي والعقارات .

تنتهي السيجارة فيشعل سيجارة اخرى في ملل , منذ أيام والعمل في كساد وهو لا يقبل القضايا التي يشعر فيها أنها سيظلم الطرف الآخر , كان يختلف مع أصدقائه دائمًا وعنهم , هناك قضايا يحلمون بها لكنها لا تناسبه هو, مازال متمسكًا بمباديء يراهَا تستحق حتى لو ضحى بحياته في بطء من أجلها ..

هناك معتز شقيقه الأصغر وعقدة حياتِه , تربى في شوارع القرية ونشأ على منهجهَا , هو الآن سائق توكتوك يحمل علامة في وجهه كانت

ضربة بمطواة في يوم ما , وهو مشهد معتاد في وجوه وأجساد الكثيرين من أهل القرية , حيث لغة السلاح الأبيض هي ترجمة لحظية للغضب كما أن التميز لتكون قدوة لجميع الشباب بأن تطلق رصاصات مدفع آلي غير مرخص في الهواء على مرأى من الجميع ..

لا يجد له أي رادع أو حل , حاول معه جميع المحاولات التي استطاعها , كلفه مالاً كثيرًا وفي كل مرة يزداد إجرامًا , عدد من شرح وجوههم بالسكين يتجاوز عدد أصابع يده رغم أنه لم يتم العشرين عامًا بعد !

يزفُر في ضيقٍ وينظر في ساعته , ما زالت التاسعة مساءًا , الوقت يمر ببطء وملل وهو لم يجد وجهها جديدًا يدخل عنده منذ أكثر من شهر .

يرتذي جاكيت بذلته تمهيدًا للانصراف , انتظر حتى يسمع انتهاء صوت الخطوات على السلم تصعد للدور العلوي ولكنه للمفاجأة وجد من يطرق على بابه المفتوح 

كانت امرأة في العشرينات من عمرها وإن بدا واضحًا من الدبلة الذهبية في يدها اليسرى أنها متزوجة وكذلك من زيها المتواضع الخالي من كل عناصر الجاذبية عكس بنات القرية رحب بّها اسلام وأجلسها وجلس على مقعده خلف المكتب يتطلع إليها في صمت ..

قالت له :

- طلعت جوزي محبوس , اتمسك من عالعلواية امبارح ومجاش للنهارده , اللي وصلي الخبر بيقول انه اتمسك بسيجارة حشيش , وأنا كنت عاوز أعرف في ايه ولا اعمل ايه وواحدة صاحبتي قالتلي اني اجيلك انتا محامي محترم .

في شك ينظر لها اسلام ويسأل :

- سيجارة حشيش بس ؟ وممسوك امبارح ومجاش لدلوقتي ؟

- ايوة والله .

- مش معقول .

- معرفش انا ده اللي وصلني وانا معرفش حتى هوا فين , الناس بتقول الحملة تبع مركز طنطا وانا عندي عيل بصراحه وعمري ما دخلت قسم ولا عارفة اسأل عليه ازاي .

يفكر اسلام قليلاً , يقول لها :

- ماشي خير هشوف اعمل ايه وان شاء الله يطلع علطول .

يسألها :

- اسم حضرتك ايه ؟

- سناء .

لربع ساعة تالية يجلس إسلام للرد على أسئلة سناء ويحاول طمأنتها في ضوء ما تقوله , يسألها عما تشرب فتخبره أنها ستمشي فورًا لأنها تركت طفلها في البيت وحده , في النهاية تحاول سناء اعطاء اسلام مائة جنيه يرفضها بشدة ويقول :

- لما اعمل حاجة هقولك اتعابي .

رغم حاجته الشديدة للمال , لكنه لا يضمن بعد أن هناك ما يمكنه عمله , لهذا لا يستطيع أن يقبله , وإن راقت له ابتسامة سناء وهي تشكرهُ قبل أن تنصرف .

يتبع
شكرا لتعليقك