في حياة عشتار إلهة الحب والجنس لدى الحضارة العراقية القديمة , كانت هنَاك
قصة حب حقيقية واحدَة تميزت بها هي اللعوب الخبيثة , وقد تمثّل للمؤلف خيال رجيم
جعله يكتب هذه القصة
إيشتَــــــــــــــــــــــــــار
إيشتَــــــــــــــــــــــــــار
طارق عميرة
وقعَ بصرهَا عليهِ للمرّة الأولى بينما كان يرعَى أغنامهُ عندَ الشجرة
المقدّسَة , التي تصلُ ظلالهاَ إلى كلّ الرعَاة , قويّ الشكيمة حازمًا , شعرت وهي
تتطلّع إلى وجههِ بعينيهِ تخترقان روحهَا الشفّافّة كغصن شجرة مكسور مما يُستخدم
في الصيد , لمْ يلحَظ وجودهَا إلا عندما سألتهُ عن إسمِه , إلتفتَ يتطلّع إلى
وجهها الفاتِن وعينيها الساحرتين وهو يعلم أنهمّا أجمل عينان , لم يجب سؤالهَا
مباشرةً بل إندفع قائلاً :
-
مولاتِي إيشتَار , تباركتِ يا
مسيّرة الدروب ومنيرة القلوب , يا صانعة الورود وحلية الوُجُود , يا مثيرة
الأشجانِ وينبوعَ الحنَان , تباركتِ أي صانعِة العلاقات المقدّسة وممدّة النسْل
حتّى الأبديّة , أنَا خادِمك تمّوز .
وقعِ إطراؤه في قلبهَا موقعًا كبيرًا وهي التي يطريهَا
الجميع , كانت شخصيّة تموز كاسحَة فهي لم تكن تعلم أنّها إيشتار ربّة الحب والجمال
يمكن أن تحب وترغب بهذهِ السرعَة , قالَت وهي تملأ عينيها بجمَال صورتِه :
-
أراقبِك اليوم منذ أرسلَت
الآلهِة الشمس تستجلِي الأرض , ومع كل شعاع يسقط على أوراق الشجرة المقدسّة
ويلتمِع على ورود , مع كل دورةٍ طارهَا فوقَك طائر يزداد إعجابِي بِك , هل ترغبُ
الزوّاجَ بِي ؟
لم يصدّق تمّوز ما تعرضهُ عليهِ إيشتَار إلهِة الربيع
والجمَال وحلمُ كلّ الآلهة , دماءهَا الفائرة أبدًا بعنفوان الشبَاب وحلاوة الصبّا
وجسدهَا الذي يحمِلُ السعَادةَ في ثنايَاه , كانَ مِن العسير جدًا أن يرفضْ , قال
وقد تغلّب على المفاجأة :
-
أنَا الحائز على دفء العالِم
وحبّ الكون , هذَا الجمالُ النقيّ الذي يَخلقُ نماذِجهُ فِي الأرضِ كلّهَا ,
بوركتِ خالقةَ القلوب وماحيَة الذنوب , إنّ هذَا لعسيرٌ على التصديق ..
إقتربَ منها وكأنّه عاجزٍ عن التصديق بعْد , عينيهَا الساحرتين وبشرتهَا البيضاءُ
المضيئَة, شفتيهَا الصغيرتين المكتظتين , شعرهَا الذي ينسدِل بنعومةٍ ثائرَة حتّى
منتصفِ ظهرهَا وخصلة ثائرَة تكادُ تغطّي إحدى عينيهَا , أزاحهَا بيدهِ ليتأملّها
بوضوح , ألقَى عصاهُ التي يتزين بهَا لرعيَ الغنِم ورفعَ كفيّه ليحتوي وجهَهَا وهو
يقُول :
-
أقبلُ بالتأكيد !
تأملّت شفتيهِ وهمَا تهمسَان بالردّ ثمّ تقتربَانِ منهَا , أطبقتَا على
شفتيْهَا , فأغمضتْ عينيهَا وهي تزدادُ ضياءًا ورغبتهَا تشتعِل فتحتضنُ الرّاعِي
في قوّة , شعرَت بدماءٍ بشريّة جديدة تتدفّق إليهَا وهي تعطيهَا ذلِك الذي تعطيهِ
للجميع , الحب .
كظآمئةٍ ترغبُ في الإرتواء , أسقطتهُ أرضًا وهي تتجرّد وتجرّدهُ معهَا مما
يحيطُ بهمَا من ماديّات , شعرت بسعادةٍ حقيقيّة ومتعَةٍ فائقَة وهيَ تُلامِسُ
صدرهُ القويّ العارِي بشفتيهَا لتبعَث طاقَةً هائلةً في عروقِه فيلبّي رغبتهَا
أسفلَ الشجرةِ المقدّسَة .
شعرَا بمظلّة زاهيَة شفّافة تحيط بهمَا لشدّة إحساسهمَا بالسعَادَة ,
أسندَت ظهرهَا إلى صدرهِ فأدار ذراعيهِ حول خصرهَا ومكثَ معهَا يتأملّ ما حولهمَا
في إنتشاء , رغمَ أن هذهِ هي الشمس الساطعةُ الأولى على لقاءهمَا إلا أنّه شعرَ
نحوهَا بعشقٍ غريب , إلهة الحب والجمَال تستكين على صدرهِ , بعدَ أن وجدَت معهُ
لذّة تبحث عنهَا منذ أمد .
سطعَت الشمس وذهبَت مراتٍ كثيرَة , في كل يومٍ يمضِي كان حبّهَا لهُ يشتعلُ
أكثر , وهو يبادلهَا ذلك حتّى صارَا عرضةً للحاقدين والحاسدين , يقول لهَا :
-
لولا أنّك أشد ضياءًا من القمِر
لخضتُ صراعًا مع الآلهة جميعًا لأجلبهُ لكِ ..
تقبّل شفتيهِ وعينيهِ وتقول :
-
ليسَ هنَاك إلهٌ يستشعرُ نصفَ
ما أستشعرهُ من فرحِ وراحَة .
يمرّ بأصابعهِ على ملمسِ بشرتِهَا شديد النّعومَة فيتمنّى أن لا يرفعهَا
قطْ , يلتفتُ لينظرَ إلى أغنامهِ فيجدهَا مشغولةً بإالتهامِ الحشائش عندَ الشجرةِ
المقدّسَة , يضمّ إيشتَار إليهِ في قوّة وحنَان , وهو ينبهر مجددًا بجسدهَا المرِن
, يشعرُ بإرتجافةٍ عنيفةٍ ترجّه , ذاتِ الإرتجافةِ التّي يشعرُ بهَا كلّمَا لامسَ
جسدَهَا , سرعَان ما يغمرهُ إحساسٌ بطاقةٍ تكفِي لمحاربة الآلهة ثمنًا لهذهِ
اللمسَات , يداعبهَا حتّى تحتضنهُ في قوّة وتغمرهُ بنورهَا الذي يعرف أن إنبعاثهُ
يعنِي رضَاهَا عنْه , في كلّ لحظةٍ يمنحهَا فيهَا نفسه يشعرُ أنّه جابَ جزءًا
هامًا من الكوْن .
كان تمّوز عاشقًا إلى حدّ العبادَة ومعشوقتهُ هيَ ربّة الحبّ التّي تُقدّم
إليهَا القرابينُ لنيلِ رضَاهَا حتّى من الآلهةِ أنفسهم وليشيعَ الحب , وكانَ يودّ
لو أهداهَا شيئًا غيرَ تقليديّ وإستحَال عليهِ ذلِك ,لهذَا أهداهَا حبّه كلّه ,
يمتصّ غضبهَا حينَ تغضَب , ويزيل ضيقهَا بلمسةٍ واحدَة من لمساتِه ويثلج فؤادهَا
بكلماتِه , ويمنحهَا وقتهُ وإهتمامهُ أكثرَ من أيّ شيءٍ آخِر ولم يكُن هذَا شاقًا
أو عسيرًا عليهِ فقدْ كانَت نظرةٌ واحدة من إيشتَار تجعلهُ يدركُ أن كلّ لذّات
الحيَاة لا تساوِي شيئًا أمام عينيهَا الساحرتيْن .
من فرطِ هيامهَا بِه نسيت إيشتَار الأحقاد والعداوات بينهَا وبعضِ الآلهةِ
الأخرَى , بلْ نشرَت الحبّ أكثر في قلوب المخلُوقَات وكلمّا رأتْ أحدًا من القسَاة
أرسلَت إليه رسولاً يحدّثه أثناءَ نومهِ بمَا يزيلُ تلكَ القسوة من قلبِه ,
وإنهالت القرابين على الآلهة من المُحبّين , وقدْ أرجعُوا فضْل ذلِك كلّه إلى حبّ
تموز الذّي لم ترَ لهُ الآلهةُ مثيلاً من قبْل , كثيرًا ما قالَ لهَا :
- رحيقكُ الدائِم كزهراتِ الوادِي المقدّس دائمًا ما يشعرُنِي بأنّنِي سيّد
الآلهَة .
غيرَ أنّها تعلمُ جيدًا أنّه بشريّ لن يعيش مثلهَا , وكانَ هذا الأمرُ
يؤرّقهَا بشدّة بل يكادُ يكُون القلقَ الوحيدَ لهَا منذُ عرفتهُ وسكنَت داخِلَه .
كانَ يعصفُ بهَا كلمّا شعرت بتلكِ النشوةِ البالغةِ عندمَا يضمّهَا تمّوز
إليه , حاولت طردهُ عنْهَا ولمْ تستطِعْ .
تحبّ لقاءهمَا عندَ الشجرة المقدّسة خاصةً عندمَا ينتهِي وتستندُ إلى صدرهِ
, تشعرُ بعلوّ نفسهَا وكأنّها مهدُ الحيَاة , تظلّ معهُ على هذَا الحَال حتّى الغروب
عندهَا ينهضُ ليتناول عصاهُ ويقودُ أغنامَهُ إلى الحظيرَة ..
في ذِك اليوم كانت منتشيةً سعيدَة , تشعرُ بالحبُور يملؤهَا والأمانُ في
عشقهَا , هيَ التّي أحبّها النسرُ فقصّت جناحيْه , وإبتغَاهَا الحصانُ فإمتطتهُ
حتّة نفَقْ , وعشقهَا الأسدُ فأفقدَتهُ تاجهُ ولبدتهُ الذهبيّة .
أسندَت رأسهَا إلى كتفِ تمّوز وهيَ تحيَا داخِل هالتهِ التّي تحتويهَا
وحدَهَا , وإنتفَضَت فجأَة حينَ سمِعَت صرخَات أغنَامِه , هبّ تموز واقفًا ليلمحْ
خنزيرًا بريًا شرسًا يعدُو مشتتًا ما يرعاهُ من أغنَام , تناولَ عصاهُ وإنطلقَ
خلفَ الخنزير من فورِه , كانَ الخنزيرُ ثائرًا و كلّ المخلوقات تعدو أمامه , ولم
يكُن من مقبلٍ سوَى تموز الذي جاءَ مهاجمًا فإنقضّ عليهِ الخنزير في شرَاسَة ,
ضربهُ تمّوز بالعصَا في قوّة فلمْ يبدُ أن الخنزيرَ قدْ تأثّر , وهو يواصلُ هجمتهُ
ويطعنهُ في صدرهِ حيثُ كانَت إيشتَار تُريح رأسهَا , يواصِل الخنزيرُ عدوهُ بينمَا
يسقطُ تمّوز في قسوَة والدمّاء تسيلُ منهُ وقد خرجَت روحهُ وذهبَت إلى آرالو مملكة
الجحيم .
كانَت صدمةً مروّعةً لإيشتَار , وفاة زوجهَا و حبيبهَا جعلت الأرضْ تهتزّ
من غضبِهَا وأسَاهَا , حتّى أن فروع الشجرةِ المقدّسة بأوراقهِا الخضراء دائمًا
بدأت في الإصفرارِ والتيبّس , السحبُ المظلمةُ ملأت السمّاء وماتت الحشائش التي
كانَت تأكلها الأغنَام , الأغنام شتتها الخنزير ذلك الحيوانُ الأهوج الذي لا يفقهُ
شيئًا ولا يمثّل أكثر من طعَام , عليهَا أن تنشرَ الحبّ في قلوبِ الخنازيرِ أيضًا
!
قرّرت ألا تصمُت , شقيقتُهَا أرشكجَال هي ملكة مملكة آرالو المظلمة , التي
تقعُ في قلب أعمَاق الأرض , وكعادةِ المنبوذين فإنّها تكرههَا كراهيةً كبيرَة
ويمتليءُ قلبهَا لهَا حقدًا وحسدًا , ولم تكدْ روح تمّوز تصل إليهَا حتّى أحكمَت
غلقَ كلّ أبواب المملكة , ووضعَت الأقفَال وأقسمَت ألا يعُود تمّوز حيًا إلى
الأرضِ مرّةً أخرَى .
قرّرت إيشتَار أن تصل إليها مهمَا كلفهَا الأمر , لتنقذَ زوجهَا وتعيدهُ
إلى الأرض وتنعمَ معهُ بالحبّ الذي فقدَتهُ , وعلَى الفور بدأت رحلتهَا لإستعادته
.
تعرفُ أنّ الطريقَ إلى المملكة المظلمَة محفوفٌ بألفِ خطَر , الكثير من
الأخطَارِ والعقبَاتِ التّي لا يجتَازُهَا أحَدْ , ولكنّها ليسَت هينّة , إنهَا
إيشتَار شافيَة النفُوس ومالئة الكؤوس , وقدْ عزمَت أن لا يوقفهَا شيء , ومع كل
خطر تواجههُ تتأججّ نارَ شوقِهَا إلى حبيبهَا تمّوز فتنتصر وتكْمِل , حتّى وصلَت
إلى أسوار آرالو المظلمة ذات الأبواب السبعَة المقدّسَة التّي أحكم إغلاقهَا
بالأقفَال والقضْبَان .
علمَت أرشكجَال بوصول أختهَا حتّى قبل أن يصلَ إليهَا خازن النّار ويعلمهَا
أن أختهَا هنَا وتطلبُ الإذنَ بالدّخُول , أصابهَا الغضبُ فأمرَت الخازن بالعودة
والتأكّد من غلق كلّ الأبواب جيدًا وأن لا يفتحهَا لهَا أبدًا ..
وعندمَا لم تجِد إيشتَار تلبيةً لطلبِهَا إشتدّ غضبهَا وهيَ تدقّ أبوابَ
مملكةِ الظلام , هيَ منشئة الأجيَال ومكونّة الأحوَال , تقفُ عاجزةً عن الدّخول ,
إشتدّ الغضبُ بهَا حتّى تزلزلت الأعماق من حولهَا وبدأت في الإرتجاج بعنفٍ شديد ,
حتّى أن خازن النّار صرخَ من وراءِ الأسوار :
-
بوركتِ يا ربّة الحيَاة , لا
أستطيع فتحَ الأبواب مالم تأمُر الرهيبة أرشكجَال .
صرخَت إيشتَار في غضَب :
-
إبصُق فِي وجهِ أرشكجَال ,
سأحطّم هذهِ الأسوَار عليهَا وسأعدّك عدوًا للآلهة .
أصيبَ الخازنُ بالرّعب وإنطلقَ إلى ملكتهِ , يرجُوهَا ويتوسّل إليهَا أن
تسمَح لإيشتَار بالدّخُول , كانَت ترفضُ ولكنّ فزعهُ أبَى عليهِ أن يذهَب دون الحصول
على ما ينقذ بهِ رأسه من صراعَات الآلهَة , أخيرًا بعدْ أن كادَ يفقِد الأمَل
قالَت لهُ :
-
أعطهَا الإذن بالدخّول , ولكن
ستنطبقُ عليهَا قوانين آرالو , لتنسى أنّهَا إلهةٌ هنَا .
عندمَا عادَ الخازِن كان يعلمُ أنّ القوانينَ ستعرّضهُ لغضبةِ ربّة الحبّ
والجمَال , ولكنّه كان مضطرًا لهذَا فقبْل أن يدْخلهَا من الباب الأوّل , قال :
-
ملكتيِ تقُول أن تعدّي نفسِك
كسائر المخلوقات بعدَ دخولِك الأبوَاب السبعَة , ستطبّق عليكِ قوانينُ آرالو .
ومدّ يدهُ إليهَا قائلاً :
- تاجُك , إلهة الكمَال , ومعنَى الجمَال .
خلعَت إيشتَار تاجهَا الذي يزِنُ جبلاً من الذهَب , ناولتهُ خازِن النّار
وسارَت معهًُ حتّى وقفَت على أعتَابِ البَابِ الثانّي , قالَ قبْلَ أن يفتحه :
-
قرطيْكِ , أي مجريَة السحّاب
وخاطفِةَ الألبَاب .
نزعَت قرطيهَا اللامعين وأعطتهمَا للخازِن وقدْ قررّت الإلتزام بالقانون
عندَ كلّ باب , قالَ لهَا عند وصولهمَا إلى الباب الثالِث :
-
قلادُتكِ , أيْ حليةَ الأعنَاق
, وصابغةَ الأورَاق .
ناولتهَا لهُ كما ناولتهُ عقدهَا عندَ الباب الرابع وحزامهَا المليء
بالمجوهرَات عندَ البَاب الخامِس , كانَت الأخطَار تزدادُ كلمّا عبرَت أحدَ أبواب
ممكلة آرالو المظلمَة , الحرائق منتشرة في كل مكَان وفي كلّ القمم والأنحاء تعبث مسوخ
وتدوّي صرخَات رهيبَة من آن لآخر مع أصوَات إرتطامَات عنيفَة , ولكنّهَا كانَت
بمأمِن بمجاورتهَا لخازِن النّار الذي واصل طريقهُ حتّى الباب السادس ثم قًَال:
-
ملابسكُ , أيْ آخذَة العُقُول
وناشرَة القبُول ..
خلعَت ثوبهَا الخارجيّ المزيّن بالحليّ والذهَب والأحجَار الملونّة
البرّاقَة , والذي كان يغطي يديهَا وساقيهَا , وليتبق ثوبٌ أخير يُخفِي مفاتنَهَا
, لم يمْكُثْ خادمُ النّار طويلاً حتّى قالَ لهَا عندَ البابِ السابِعْ :
- ثوبكِ , أي مفقدة الصوّاب , ومنهيةَ الخرَاب ..
إعترضَت للمرّة الأولى منذ بدأت رحلتهَا معهُ ولكنّه أصرّ , وهيَ تعرف أن
القوانين واجبَة الإحترَام , خلعَت ثوبهَا لتظهر عاريةً تمامًا بينمَا يفتحُ هو
البابَ السابّع حيثُ تنتظرُ ملكتهُ في أعمَق أعمَاق المملكَة المظلمَة .
دخلَت إيشتَار على أرشكجَال فوقفَت الأخيرَة تتطلّع إليهَا وقدْ إشتدّ
غيظهَا وهيَ ترَى جسدَ شقيقتهَا الفاتِن , وجههَا الرائع الذي يتناقض مع مملكتهَا
بأسرهَا , نهديهَا السويين وقوامهَا الساحِر وردفيْهَا الثقيلين , شعرهَا الثائِر
بنعومَة على العكسِ منهَا هي القبيحَة شديدة القبْح عوراءَ العينِ عرجاءَ القدمِ
متآكلة الشّعْر .
دُون أن توجّه حرفًا إلى شقيقتهَا إلتفتَت أرشكجَال إلى خازن النار والكمد
يقتلهَا من عنفوانِ وجمَال شقيقتهَا , قالَتْ لهُ وقد قرّرت معاقبَة إيشتَار فقَط
على فتنتهَا الطاغيّة :
-
إذهَبْ إلى قصرِي وإسجنهَا فيه
, وسلّط عليهَا كلّ الأمرَاض , أريدُ أن تنتهِي وتذبلَ عينيهَا وتهش عظامهَا ويسقطُ
شعرهَا وينتفخَ ثديَاهَا , ولا تترك عضوًا من أعضاءِ جسمهَا البغيض دونَ أنْ تسلّط
عليهِ مرضًا أو آفَة .
هكذَا وجدَت إيشتَار نفسهَا عاريةً حبيسَة , وقد هزلَت بطنهَا وتضخمّت
أعضاءهَا وتبخرّ جمالهَا وأصيبَت بالمرضِ والألمِ في كلّ جزءٍ من جسدهَا , كانَت
قدْ تخلّت عن ألوهيتّهَا مع دخُولهَا وصارَت جسدًا عاديًا لا يحتملُ كلّ هذَا
الألَم , ألمُهَا الأكبر كان لفقدَان جمالهَا , عينَاهَا مربدّتَان مريضتَان
ووجههَا منتفخْ ورائحتهَا كريهَة , ولا تستطيع الرّاحَة لأنّ إحتكاكَ جسدهَا
بالأرض عند الجلوس أو النوم يسبّب لهَا ألمًا كبيرًا .
مكثَت فترةً على هذا الحَال , ولكنّ الوضعَ لم يكُن مستقيمًا بالخارِجْ ,
فقد فقدَت الأرض ربّة الحبّ والجمَال , وإختفَت قواهَا وأفعالهَا عن الكائِنَات ,
كفّت الشهوَة عن التدفّق في العُروق ولم يعُد للرجَال رغبةٌ في النّساء ولا
النساءُ ترغبُ بالرجَال , عزفُوا عن اللقاء , بل كفّت النباتات عن الإختلاط فقلّ
الخضَار وذبلَت الأشجَار , حتّى الحيوَانَات نسيَت حرارَة الرغبَة والتنَاسُلْ .
وكلمّا إشتدّ ألمُ إيشتَار وعذابهَا من أجل تمّوز , زادَ الخرابُ وقلّت
الحيَاة , تناقصَ البشر والخضرَة والمخلوقَات , ولم تعُد السحُب ترتطم ببعضهَا
وكفّ النّاس عن تقديم القرَابين للآلهَة بل عزفَ كثيرٌ منهم عن عبادَتِهم ..
وفي دورتهِ بينَ المشرقِ والمغربِ رأَى ربّ الشمسِ ما حلّ من خرابٍ ودمَار
ونقصان في الخيرَات على الكوكب الذّي يدُور لإضاءته , أصابهُ الفزَع ولم يستطِعْ
إلا البكَاء وهوَ يتجّه إلى ربّ الأرض وحاكمهَا آب العظيم , وحكَى لهُ ما يراهُ في
رحلتهِ كلّ يومٍ من خرابٍ وعذابٍ وقلّة في القرابين بسبب إختفَاء إيشتَار ..
أصَاب الغم ربّ الأرضِ آب لما آلت إليهِ مملكته , فصنعَ من فورهِ رسولاً
وضعَ فيهِ الحيَاة وأرسلهُ برسالةٍ محدّدة إلى أرشكجَال ملكَة آرالو :
-
إطلب منهَا إطلاق سرَاح إيشتَار
..بإسمْ كلّ الآلهَة .
وكانَ هذا الذي حملهُ رسولُ الآلهةِ بمثابةِ أمرٍ واجب النفّاذ , إخترقَ
بهِ جميعَ الأخطَار و الأسوَار ليصلَ إلى أرشكجَال في الأعمَاق ويلقِي عليهَا
بالأمر المقدّس بإسم كلّ الآلهَة , كانتْ غضبةُ أرشكجَال مروّعَة , حتّى أنّهَا
سبّت رسُول الآلهَة ولعنتهُ وأمرَت خازن النارَ بإلقاءِه في جبٍ ناري في أعماق
آرالو حتّى يمُوت ..
علمَت جيدًا أنّهَا لا تستطيع رفضَ أمرٍ بإسم كلّ الآلهَة , أصابهَا القهْر
وهيَ تأمر خازنهَا بإطلاق سرَاح إيشتَار , توجّه الخازن إلى الزنزانة وفتحهَا ,
قال وهو يتطلّع إلى جسد إيشتَار الذابِل المريض :
-
يا سيئّة الأوصَاف , وقاحلَة
الأطرَاف .. جاءَ الخلاص .
قالَت في ضعْف :
-
لا خروجَ إلا مع تمّوز .
أعاد الخازن إغلاق الزنزانة وزادَ في تعذيبهِ لإيشتَار , وإستمرّت الأرضُ
متيبسة تكاد تخلُو من الحيَاة , فأرسلَت الآلهَة أمرًا مقدسًا آخر بإحياء تمّوز ,
فأرسلَت أرشكجَال من يصبّ ماء الحياة على جسد تمّوز رغمًا عنهَا وحقدهَا الشديد
لأنّها لا تستطيع التعدّي على سلطَان الآلهَة .
وأمرَت الخازن بإطلاق سرَاح إيشتَار معه وإطلاقهم خارج أسوار آرالو ,
بينمَا خرجَت إيشتَار ظافرةً وهي تشعرُ بتبدّل في جسمهَا وعودتهِ إلى أصله ,
وخرجَت لترافق تمّوز وتجتَاز أبواب آرالو السبعة وتلتقط كل ما خلعتهُ عندَ مجيئهَا
, فعند الباب الأوّل إرتدَت آخر أثوابهَا , ثم ثوبهَا المزيّن , فحزامها وعقدْهَا
وقلادتهَا وقرطيْهَا وتاجهَا ..
وعندمَا إنشقّت الأرض عنهَا وحبيبهَا تمّوز , نبتت الأشجَار ونمت الزروع
وبدَت الثمّار , إستعَادَت عرشهَا وملكهَا وألوهيتهَا من جديد للحبّ والجمَال وهيَ
ترَى الخضرَ تنمو حولهَا وتلمحُ الشجرة المقدّسة وقد عادَ الخضَار يسرِي في أوراقهَا
.
أمّا تمّوز فقد رأى السحب المظلمَة تذهب والسماء تصفو , فنظرَ إلى ملكتهِ
في حبْ , وإحتضنهَا في قوّة لتنسَى كلّ ما عانته من أخطَار , فقطْ إندفعَت تقبّله
وهي تكتشفه بعدَ أن عادَ إلى الحيَاة وتكتشف معهُ حقيقة جسدهَا بعد أن شفيَ من
الآلام والعذَاب .
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء