في الزنزانة جلس طلعت وحيدًا , لم يكن بالضعف الذي يجعل
دموع القهر والألم تنزف من عينيه , كما لم يكُن بالقوة التي تعينه على الوقُوف من
جلستهِ المهينة تلك ..
داخل الزنزانة لم يتحرش به أحد , فالجميع يعرف كيف هي
محلة مرحوم بلد مجرمين يعرفونهم بالإسم الذي بلغ طول البلاد وعرضها ..
ولكنه كان يفكر في المستقبل ويحسبه بعيدًا عنه , يبحث عن
أمل وقد ظن بنهاية كل الآمال في جلسته تلك لقد كذبوا عليه , قال له الأمين لو لم
يجد حكمًا سيتركه ولكنه عندما وجد نفسه امام الضابط مكبل الأغلال , بينما يسأل عن
تهمته , قال له لأمين :
-
لقينا معاه سيجارة بيشربها يصطبح يا عمرو بيه
.
-
ده كلام , هنعمل محضر بسيجارة برضه .
ثم ينظرُ لهُ عمرو بيه مليًا ويقول :
-
اعمله سلاح .
يتحدّث في هذه اللحظة وقد أدرك ما يُحاط به :
-
يا بيه انا عندي عيل ومراتي ما تعرفش اني هنا
وانا ماليش في اي حاجة .
-
عليا انا ؟ دنتا من محلة مرحوم يا ابن
ال.....
يلجمه السباب عن الرد , صحيح أنه اعتاد السب والقذف
كثيرًا ولا يكاد يخلو حوار له مع صديق أو معاملة مع زوجته من عشرات الألفاظ
البذيئة لكنه للمرة الأولى يجد أنه عاجز عن الرد , حتى في سره ..
يلمح الضابط صمته وذهوله , يهتف :
-
مش عاجبك ولا ايه , ارموه في الحجز ..
يقولها للأمين المجاور له فيجذبه هذا في عنف ويلقيه في
حجز مكشوف في حجرة للمحققين , قال له :
-
لما تحب تطلع قولي امضيك عالمحضر .
-
يعني لو مضيت عالمحضر هطلع ؟
-
ايوة دي قضية ورق يا ...امك عشان راضيين عنك
..
عندما قرر توقيع المحضر كان الضباط قد انصرفوا ونقلوه
لسجن المركز , في اليوم التالي أخبروه بالعرض على نيابة غدًا بعدها سيعود لمنزله ,
هكذا جلس يدعو على الظلم و الظالمين ويأسى لحاله
في الخارج كان إسلام يبذل جهدا جهيدا في الوصول له ,
اطلع على المحضر , و ظل يسأل الضباط والأمناء , واستغل معارفه ليخبروه في النهاية
أنهم سيدخلونه لملاقاة طلعت ولكنه لن يستطيع استلامه إلا من النيابة غدًا !
قال له اسلام عندما رآه :
-
انا جاي عشانك , مراتك جاتلي وقالتلي انك
اتمسكت ..
هاله حالتا الاحباط والذهول المرتسمتان على وجه طلعت ,
قال له :
-
ما تقلقش دي قضة مفيهاش حاجة والبراءة سهلة
ان شاء الله , انتا كان معاك مطوة ؟
-
ولا اي حاجة دول ولاد ستين كلب .
ينظر له إسلام متشككًا :
-
ولا أي حاجة ؟
-
كان معايا سيجارة مش مطوة
أومأ برأسه متفهمًا , قال :
-
طيب انا مش هقدر اطلعك النهارده , بس بكرة ان
شاء الله هتروح وما تشغلش بالك بحاجة , انا جبتلك سندوتشات فول وطعمية معايا ,
لانك اكيد ما كلتش كويس من امبارح .
بلا انفعال يقول طلعت :
-
كتر خير الناس اللي هنا ..
يرمق اسلام بفضول وفي ذهنه تدور كيفية حصوله على اتعابه
وهل حصل عليها فعلا , المأساة أنه لا يستطيع السؤال لأنه لا يملك الآن أي مال ,
كأنما شعر به إسلام :
-
لو ما نمتش نام كويس وبكرة هتنام في البيت ان
شاء الله ومتشيلش هم أي حاجة ..
لا يترك له العريف فرصة للرد يجذبه ويعود بهِ
إلى الزنزانة , للحظات يقف اسلام مفكرًا , ثم يدور على عقبيه وينصرف ..
***
أثناء طريق عودته كان إسلام مشغول الذهن , جاوزت الساعة
منتصف اليل بقليل , ومعنى هذا أن إحتمال وجود أصدقائه على مقهى بحري قلت نسبتهُ
كثيرًا ..
يجتمع هناك يومياً بشكل شبه يومي مع اصدقائه ممن لا
يستطيعون رؤية بعضهم البعض نهارًا بسبب أعمالهم , ورغم انه كان الأقل اهتماما في
التلاقي يوميًا مع من يأتي من الشباب لظروف عمله المسائية التي إن لم تجبره على
العمل ليلاً أجبرته على مجالسة الموكلين او المتهمين أو الذهاب في جلسة صلح أو
مشاهدة عقار أو قطعة أرض ..
لكنّه في هذه اللحظة يشعر بحاجته الشديدة لمجالستهم
ومحادثتهم ومشاركتهم أفكاره وضغوطاته , ساهم طلعت بالذهول والبلادة المرتسمين على
وجهه في زيادة إحساسه بالضيق , رغم الفارق الضخم بينهمَا لكن إسلام يؤكد لنفسه أنه
عرف هذا الإحساس وجربه مرارًا دون ضابط او زنزانة , إذا كانت الحكومة وقوتها تشكل
رادعًا كاسرًا لمن يوجد في طريقهم , وتمثل الرعب والاحترام الأكبر لفئة شاربي
البانجو والقائمين بكل شيء بلا تراخيص , فإن ما يكسره هو واصدقاءه وزملائه من
المتعلمين الذين يملأون القرية , أشياء أكبر كثيرًا , ربما أقل ..
يقتله سؤال الكثيرين , لماذا نحن هنا , يعرف أن عبقري
الكومبيوتر حسين ابو راضي صديقه و المهندس صابر ابو هبل , والدكتور سعيد التواجي و
نصف اصدقائه على الأقل ينتظرون فرصة مناسبة لترك البلدة إلى أجل غير مسمى أو حتى
إلى الأبد ..
يعرف أن هذا ليس خيارًا له , هو هنا ا دامت عبير هنا
وسيكون في اي أرض طالما كانت عبير هنالك !
عبير هي الشيء الذي لم يجعله ينتحر منذ بدأت الأزمات
تنهال على رأسه , هي الشيء الذي لا يجعله يجن عندما كان عمرو بيه ضابط المركز
يحتجز معتز شقيقه تعنتًا في كل مرة يصادف أن يراه فيها في شارع ..
لهذا يكره عمرو بيه وشعر بالانقباض عندما علم أنه سيكون
خصيمه في قضية طلعت , لهذا يشعر أن قصة طلعت لم تنتهي بل هي تبدأ , في الداخلية
بعض الضباط الشرفاء , ولكنهم ليختاروا ضابطًا يتعامل مع القرية يجب أن يكون شريفًا
من النوع الذي لا تؤثر الدماء على تفكيره , لا يرهب البلطجية بل يُرهبهم , إذا
حاول أحد لي ذراعه قطع هو له ذراعه , باختصار يختارون أسوأ ضابط ممكن للتعامل مع
القرية وإن كان الضابط شريفًا نظيفًا فبعض مجرمي القرية سيضطرونه لإخراج أسوأ
مافيه ..
لا ينسوا هنا أن يخبروه أن بعض رجال القرية في أماكن
حساسة للغاية لا يعرفها أهل القرية انفسهم , بعضهم ضباط جيش وشرطة لا يجدر
الاحتكاك بهم مطلقًا , بعضهم يعملون في الرقابة والجهاز المركزي للمحاسبات , لا
باس من تجاهلهم , بعضهم يملكون دائرات علاقات عملاقة تصل لوزراء وشخصيات معروفة
وضباط كبار أو متعاملين دوليين , لا بأس من غض الطرف , بعضهم يصدرون الحرير بينما
يعمل أكثرهم فيه وبعضهم يعملون في الأعمال التي تخدم بعضهم البعض كالمطاعم
والسواقة و العمالة و الصناعات اليدوية ..
هناك النائب بهاء الهرميل ضابط الشرطة الذي لا يكف عن
الاستقالة من الشرطة ليأخذ رحلة مجلس الشعب ثم يعود إليها , هذا الرجل له اعتباره
ونفوذه كذلك ويجب المحافظة عليهما , حتى وإن اسقطته الثورة بعد انضمامه للحزب الحاكم
إلا أن له أنصارًا وشعبية كبيرة غير أنه قريب لعادل الهرميل رحمه الله أحد رموز الداخلية
في محافظة الغربية والأقوى صيتًا وشهرة بحسن الخلق حتى بعد وفاته بأعوام, بالتأكيد
مر عمرو بيه بكل هذه النصائح !
وجد إسلام نفسه امام بحري وهو غارق في خواطره السوداء ,
لم يجد أحدًا من اصدقاءه , في النهاية قرر الجلوس وشرب كوب من الشاي قبل إغلاق
المقهى ولم يستقر على مقعده حتى التقط هاتفه المحمول , عبث بأزراره قليلاً قبل أن
يأتيه الصوت المتلهف :
-
الو ايوة يا استاذ اسلام ..
-
اهلا يا استاذة سناء , اسف اني بكلمك متأخر ,
انا قابلت طلعت وهوا كويس وهيكون في البيت بكرة الضهر ان شاء الله ..
-
بجد , الله يكرمك يا استاذ اسلام , اكيد
الكلام ده ..
بعبارات مترددة تساءلت كثيرًا واجابها مطمئنًا وأخيرًا
انتهت المكالمة التي لم تكمل الدقيقتين , فكر اسلام في مدى الفرق بين طلعت وزوجته
وكيف أن هذا الأحمق يملك نعمًا كثيرة لا يراها ..
أجرى مكالمة أخرى ليطمئن على معتز , هل ارتكب مصيبة ما
أم ما زال منتشيًا بآخر علاماته , وجده نائمًا في المنزل , لا بأس ..بدأت حالة
الضيق تخف عنه ..
انتهى من الشاي ودفع حساب المقهى وسار ببذلته السوداء
وحقيبة أوراقه في خطوات متأنية , عليه أن ينام جيدًا وفي الصباح سيكون عليه أن
يفسد قضية طلعت ..
في تلك اللحظة ملأت خياله صورة عبير , بشعرها الفاحم
وعينيها السوداواتين وابتسامتها الساحرة التي تذيب جبال الهموم , عندها فقط شعر
براحة كاملة تغمره , حتى وصل إلى المنزل , وجد معتز مستيقظًا جالسا في الصالة ,
بادره :
-
كلمتك من شوية لقيتك نايم ..
-
مش عارف انام .
-
ليه كدا ؟
-
بطني واجعاني وانتم محدش بيسأل .
-
مهو أكيد مالهباب اللي انتا بتشربه , كام مرة
هقولك يعني
-
تاني الهباب اللي انا بشربه , خليكوا كداهوه
يرمقه اسلام بنظرته المتشككّة وفي أعماقه يكتم ضيقًا بدأ
ينبعث مرة أخرى , يقول له :
-
امال ايه يعني يا عم معتز , وانتا تمشي طول
النهار مع الصيع وتبلبع برشام و مش عاجبك ان بطنك وجعاك ؟ ما احنا رحنا لخمسين
دكتور وقالوا معندكش حاجة
يقول معتز بجدية :
-
ما كل اصحابي بياخدوا برشام اشمعنى انا , انا
اصحابي بيقولوا عليا عفريت مسلم !!
يضحك اسلام ساخرًا :
-
عفريت وكمان مسلم , اشمعنى
-
ساعات ببقى معاهم والأدان ياذن أدخل أصلي
لوحدي وبعد كدا مفتكرش حاجة من ده !
يتطلع إليه إسلام مستشفًا جديته , معتز يصلي ؟ يا
للمعجزة .. بالتأكيد عليه عفريت مسلم , يسأله مستسلمًا :
-
يعني انتا عايز ايه دلوقتي يا عم معتز ؟
-
عاوز اشوف شيخ يبص عليا ويشوف موضوع بطني
اللي بقاله سنه ده ..
يرمق اسلام عيني معتز المحمرتين ولا يبدو احمرارهما
طبيعيًا , تحيط بهما هالات سوداء بالغَة , إذا لم يكن هذا أثر السحر فما هو , يقول
بعد تفكير :
-
اشوفلك يا معتز ماشي اما نشوف آخرتها معاك ,
وانتا برضه بطل الهباب اللي بتشربه
يقول معتز وهو ينهض لغرفته :
-
يا ريت تشوف بجد انتا كل يوم تقولي هعمل
وهشوف وهوديك وما بتعملش حاجة ..
ويصفق باب الغرفة خلفهيتبع,
خارج الموضوع تحويل الاكوادإخفاء الابتساماتإخفاء