pregnancy

صورة حشد - قصة قصيرة




" نزعم الكرَامة وقد دسنَا جثتّك يا صديقِي , نزعم الحق وقد أهدرناك وأنتَ أعظم كنوزنَا يا صديقِي , نزعم الشرّف وأيادينا ملوثّة بدماءك يا صديقي , نكافيء قاتليك وجلاديك ونترقب السلطة ونحصد المكاسب والمفاسِد باسمك يا صديقي .."
لم يعرف لمن يكتُب هذه الكلمات , هذا خطاب لن يرسله لأن متلقيه ميّت بالفعل , لكنّه كان يعرف أنّه إن لم يكتب هذه الكلمات فإنه سيجنّ , يشعر أن حياته لم يعد لها فيمة وليس لهَا تأثير .
بالأمس القريب كان الجميع يقولون له أنّه لن يغير العالم , وقد غيّره فعلا بل قاد الجميع ثم نبذوه وأفكاره ورددوها بعد أن شوّهوها وقرروا استغلالها للوصول لمصالحهم مع مشاهدة البقية اللذين يزعمون الفهم التام وهم مجموعة من الحمقى والأتباع .
ينظر إلى جدران غرفتهِ التي لا يغادرهَا الآن إلا لضرورَة , ويرمق الصورة الضخمة التي يعلّقها على الجدَار ويعتبر قومها أنساءه . صورة الجماهير الغاضبة في ميدان التحرير ..
الوجوه المحتشدة جوار بعضها البعْض , هناك من يبكي , هناك من يضحَك , هناك من يهتِف , هناك من يصرُخ ..
" وهناك وقفنا بجوارك ثم وقفنا نحمل جثتّك ثم وقفنَا حدادًا عليها ثم وقفنا نحتفل بقاتلِيك يا صديقِي ..
الحال سيءٌ جدًا ..
يزعمُ كل موظفٌ هنا أنه شريف والواقع أن الموظف الشريف مضطهد ومكروه ومنبوذ ومبعد .
يخرج كل ضابط ليتحدّث عن الأمن والبلطجة , بينما يعرف الجميع أنّهم صناعها وأنهم يأخذون الشريف والضعيف بينما تمتليء أدراجهم بأحكام حقيقية على مجرمين حقيقيين أحرار لا يجدون من ينفذ حكمًا منذ سنوات .
يعلن وزير الصحّة أن المساس بالدواء خط أحمر بينما الناس يتمنون عودة تجارة الرقيق رحمةً من هذا الغلاء والفساد والافتراء والاهمال والمهانة والتوحّش.
يقيم وزير التعليم المؤتمرات ويشيد بالمدرسين والمناهج والامتحانات بينما لم يحضر طالب في مدرسة طوال عامي الثانوية العامّة !
يزعم وزير الدفاع أنه حمى الثورة وجيشه بينما لم يحاسب مجرم واحد بل وضعت كل العثرات لتشجيع الفاسد ونكاية الشريف .
يزعم الرئيس المنتخب أنه أتى بكَ وبدماءك ولن يفرط بحقك بينما يعلن في الوقت ذاته انه سيكرم قاتليك .
أي دعارة جماعية تمارس علينا علنًا ؟ أي إغتصابٍ يحدث ونحن خائفون من الفضيحة خاضعون من الذل .
أحيانًا افكر أن الصمت حتمٌ لأن الصوت لو علا لاقتحم كل خليّة وفجرها , لو أن لنا كرامةً حقًا لقتلناهم وقتلنا أنفسنَا ,
هذه دولة ينام ثلاثة ملايين طفل فيها في الشوارع ولا يرتدون الكثير من الملابس القذرة والجميع ينامون راضون يرون تحققت انجازات وهؤلاء في ازدياد مستمر ..
أعتقد أننا أخطأنا بثورتنا يا صديقي ..
هؤلاء قوم كانوا يستحقون أن يأكلوا جثث بعضهم ..
أتركك الآن , فأنا أشعر بالإختناق لأنني لم آكل شيئًا منذ أيام ..
أنا منهَكْ..
منهَك .
***
قال لهُ أحدهم :
أنت كتبتَ هذهِ الكلمَات حين بلغ السوءُ منك ذروته .
قال :
نعم , وما زلت أبحث عن جوَاب وإن شفيَت نفسِي وشُفّت روحِي
ثم سأل :
أين أنا ؟
قال لهُ أحدهم :
الجنّة , حيث يظنّون أنك معذّب لكنك ترى مصائرهُم في رضَا تام , الآن تعلم أنهم يستحقُون ما يُفعل بهم , وسيستحقُون ما يحدُث لهُم .
يشعرُ بوهنٍ مفاجيء ويسقط على ركبتيه , يسمعُ أحدهم يقُول :
لقد بدءوا الأمر معَك , ستعتاد هذا الشعور كلما كان هناك من يذكُر إسمك , هناك من يستغلك ويطالب بالقصاص لك و قلبه مكدس بالكراهية تجَاهك , سيحدث لك هذا كثيرًا , أنت دفعَت روحَك ليعبث بها هؤلاء .
قال في يأس :
ولكنني لم أفعَل !
ناداه أحدهم :
اقترب .
اقترب منه في هدوء , تنحّى الأخير لتظهرَ وراءه نافذةٌ من العدم , قال :
لتنظر .
يرى ,,
الآن يرى ويعلمُ أنّه لم يكن يرَى
رجال مالٍ كثيرون , مجرمون كبار لن يصل إليهم أحد , موائد السلطة يتقاسمهَا الساعون للسيادة , باحثون في همٍ وغمٍ عن خبز وغاز وبنزين , سائرات يتعرضّن للإنتهاك علنًا , بلطجية يطلقون رصاصهم ويستلون مطاويهم وسيوفهم , رجال أمنٍ أعلنوا أنفسهم حكامًا صغارًا , يرَى
مراهقون لم تلوث عقولهم يجتمعون في كل مكَان لهدم ذلك كله , يراهم كنجوم صغيرة في سماء سودَاء .
يغلق النافذة ويلتفت إليهم ويقول بارتياح للمرة الأولى منذ أفاق :
- لا بأس يا أصدقاء , أعتقد أننا من إنتصرنا في ذلك كله .
يبتسمون جميعًا ويصنعون حلقة حوله تضيق وتضيق ..
فيزداد إرتياحه .
يونيو 2012
شكرا لتعليقك